

"البيت الأبيض افتقر إلى خطة واضحة لفترة ما بعد الحرب"
:
يواجه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي صعوبات جمة على طريق إعادة الأمن إلى العراق. المعلق بيتر فيليب يرى أن هذا الإخفاق لا يتحمل مسؤوليته المالكي وحده، وإنما البيت الأبيض أيضا لافتقاره إلى خطة واضحة لفترة ما بعد الحرب.
من المؤكد أن رئاسة الحكومة العراقية ليست بالمهمة السهلة. لكن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي قد أغرق نفسه في المشاكل أكثر من سابقيه، فالرجل البالغ من العمر سبعة وخمسين عاما والذي يشغل منصب نائب رئيس حزب الدعوة الشيعي، يُنظر إليه على أنه دمية في يد الولايات المتحدة، في حين تصفه الولايات المتحدة بأنه ضعيف ومتردد. وهو يتُهم من قبل الطائفة الشيعية التي ينتمي إليها بأنه يتعامل برفق شديد مع مرتكبي أعمال العنف من السنة ويبدي خنوعا شديدا تجاه الولايات المتحدة. كما أنه على خلاف مع إيران التي وفرت له في الماضي الحماية من صدام حسين، لأن حكومته تتهم طهران بالتدخل في شؤون البلاد من خلال دعم مرتكبي أعمال العنف. والسعودية من جانبها تتهم المالكي بالتحيز ضد السنة وتتجاهله حيثما أمكن ذلك.
لذلك فلا عجب ألا يجد المالكي أي هناء في منصبه. منذ أشهر وهو يتحدث عن أنه على الأغلب لن يستنفذ تماما ما تبقى له من فترة ولايته، أي ما يزيد عن عامين، وأنه لن يرشح نفسه بأي حال من الأحوال لولاية ثانية. وعلى كل حال لم يكن المالكي هو الخيار الأول لرئاسة الحكومة بل تولى المنصب، بعد عدة أشهر من البحث، كمرشح ترضى به جميع الأطراف، وأعتقد الجميع أنهم يستطيعون العمل معه.
غياب استراتيجية أمريكية واضحة

المعلق بيتر فيليبو
اكتشاف أن ذلك كان خطأ كبيرا، لا يعني رغم هذا أن تُلقى كل التبعات على كاهل المالكي. من المؤكد أن ارتباك البيت الأبيض وافتقاده لخطة واضحة كان بالأحرى هو المتسبب في وقوع هذا الخطأ، فقد كانت هناك خطة واضحة لحرب العراق، لكن لم توضع أية خطط أو استراتيجيات لفترة ما بعد الحرب. ما أدى بدوره إلى عدم وجود ما يسمى بفترة ما بعد الحرب، فحرب العراق لا تزال مستمرة، صحيح أن جبهاتها تتغير، لكن وتيرة العنف والخسائر تتزايد بإطراد، بخاصة على جانب المدنيين.
وفي ظل هذه الظروف لا يمكن التفكير في انسحاب قريب للقوات الأمريكية من العراق. وحتى ممثلو حكومة المالكي يحذرون من الفوضى التي تتهدد البلاد في حال انسحاب تلك القوات. كذلك لم تحقق فكرة الرئيس الأمريكي بتعزيز القوات في بغداد لتحجيم أعمال العنف ونقل قواعد القوات الأمريكية إلى مناطق نائية أية نتيجة ملموسة، فالهجمات وأعمال القتل تتزايد باستمرار في بغداد. والشهر الحالي يعد أكثر الشهور دموية منذ دخول القوات الأمريكية إلى العراق.
"النتيجة في التقسيم الواضح للعراق"
ويتبدى انعدام حيلة الولايات المتحدة وافتقادها لخطة واضحة في العراق أيضا في دعم المسلحين السنة الذين كانوا يحاربون الأمريكيين ثم قرروا حسبما يقال التعاون معهم. واشنطن تدعم هؤلاء ضد المتشددين الشيعة، لكن "شبح إيران المرعب" يقف في الخلفية: يسعى البيت الأبيض إلى تقليص النفوذ الإيراني في العراق، وفي سبيل ذلك يدعم أيضا جماعات كردية عراقية تتسلل إلى إيران لتنفيذ هجمات هناك.
والنتيجة هي التقسيم الواضح للعراق، جغرافيا وأيضا في مجالات أخرى، وهكذا يتواصل نزاع العراقيين حول قانون النفط الذي قدمته الحكومة والذي يقضي بضمان توزيع الثروة النفطية على الأقاليم وفقا للنسب السكانية، وسط عجز الحكومة عن تقليص العداوات داخلها، حيث انسحب وزراء سنة وأنصار لرجل الدين الشيعي المتشدد مقتدى الصدر من الائتلاف الحكومي، وباقي الحكومة لا يتمكن من الإمساك بزمام الأمور.
بيتر فيليب/إعداد أحمد فاروق
المصدر:دويتشة فيلة
-------------------------------------------
الحداثة معجزة أم أسطورة؟
2007 الجمعة 25 مايو
البيان الاماراتية
هاشم صالح
الحداثة بالمعنى الحالي للكلمة هي ظاهرة نشأت في أوروبا منذ القرن السادس عشر وبلغت ذروتها في القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد قسمت التاريخ إلى قسمين: ما قبلها وما بعدها. فما قبلها كانت العصور الوسطى المسيحية أو محاكم التفتيش الظلامية، هذا بالإضافة إلى الفقر والجوع والزهد في الحياة الدنيا وانتشار أفكار الخوف والتعصب والحروب الطائفية أو المذهبية.
وما بعدها كانت الحضارة العلمية والتكنولوجية والفلسفية والعلمانية والتقدم المادي والاقتصادي الذي لا مثيل له في التاريخ. ولو نهض أناس القرون الوسطى من قبورهم ونظروا من حولهم لجن جنونهم وهم يرون كل هذه الحضارة المزدهرة التي قلبت الأمور عاليها سافلها وغيرت وجه الأرض.
بهذا المعنى فالحداثة معجزة بدون أدنى شك. وللتأكد من ذلك يكفي أن تنتقل بالطائرة من عواصم الغرب إلى عواصم العرب والمسلمين لكي ترى الفرق الشاسع ولكي تدرك أنك قطعت ثلاثة قرون لا ثلاث ساعات أثناء رحلتك القصيرة بالطائرة.
ولكن بعضنا ممن يحاول تعزية نفسه يقول ان الحداثة هي مجرد أسطورة أو حتى وهم وسراب بل؟ ويقولون بأنها كلها كفر وإلحاد واباحيات وسلبيات.. والسؤال المطروح هو التالي: إذا كان الأمر كذلك فلماذا تحاول كل أمم الأرض كالصين والهند وروسيا أن تلحق بركب الغرب وتدخل إلى جنة الحداثة؟ لماذا تزحف نحوها زحفاً بكل يديها ورجليها؟
لا يوجد بلد واحد في العالم إلا وهو يحلم بأن يتوصل إلى نفس التقدم المادي والعلمي والطبي والرفاهية الاقتصادية التي وصلت إليها الشعوب الأوروبية أو الأميركية الشمالية. كلنا نحلم بأن نذوق طعم الحداثة والحياة الاستهلاكية والحريات الشخصية التي تتمتع بها الشعوب المتقدمة.
ولا يوجد بلد واحد في العالم يقول (على الأقل ظاهرياً) بأنه ضد الديمقراطية وحقوق الإنسان. هذا لا يعني بالطبع أنه لا توجد نواقص في الحداثة، أو أنها لا تعاني من أزمات وانسدادات أو شطط وانحرافات. ولكني قررت في هذه المقالة ألا أتحدث إلا عن إيجابيات الحداثة.
لماذا؟ لأني كالعديد من المثقفين العرب أتمنى أن تخرج مجتمعاتنا من حالة التخلف والأصولية والاستبداد إلى حالة التقدم والاستنارة والحريات. ولكي أفهم الحداثة، لكي أقدم عنها صورة تبسيطية واضحة، أجد نفسي مضطراً لتقسيمها إلى حداثات.
فهناك أولاً الحداثة المادية أو العلمية والتكنولوجية التي تبهر أبصارنا نحن الشرقيين بمجرد أن تطأ أقدامنا الأرض الأوروبية. وهي التي نحسدهم عليها بالدرجة الأولى إذا ما استثنينا مسألة الحريات الفردية وعدم الخوف المرعب من الطغاة والحكام، الخ.
وهناك ثانياً الحداثة الفلسفية المرتبطة بالأولى بشكل أكبر مما نظن. والدليل على ذلك هذه العبارة التي انتشرت في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر: لولا نيوتن لما كان كانط. والمقصود بذلك أنه لولا الاكتشافات العلمية الهائلة لإسحاق نيوتن لما استطاع فيلسوف الألمان أن يشكل أكبر فلسفة في العصور الحديثة.
وبالتالي فتقدم الفلسفة العقلانية مرتبط بتقدم العلم الفيزيائي واكتشاف قوانين الطبيعة والكون. ونحن العرب خسرنا المعركة منذ ان كانت حركة العلم والفلسفة قد توقفت عندنا ودخلنا في عصور الانحطاط الطويلة.
وهناك ثالثاً الحداثة الاقتصادية التي قضت على المجاعات الكبرى داخل النطاق الأوروبي على الأقل ورفعت مستوى المعيشة للطبقات الوسطى وعموم الشعب. انظر مثلا إلى حالة الرفاهية السائدة في البلدان الاسكندنافية كالسويد والنرويج والدنمارك حيث تؤمن لك الدولة كل شيء تقريبا وحيث لا يوجد أي فساد إداري أو سياسي وحيث الوزير مسؤول عن كل فلس يصرفه.
وهناك رابعاً الحداثة السياسية المتمثلة بالثورات الثلاث: الإنجليزية (1680)، فالأميركية (1776)، فالفرنسية (1789). فبعدها دخلنا في عصر الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان وسيادة الشعب وحق التصويت العام والتناوب على السلطة ووجود الأغلبية والمعارضة، وعدم سجن الناس على آرائهم السياسية.
وهناك خامساً الحداثة الدينية. وكان ينبغي أن أقول أولاً الحداثة الدينية لأن الدين هو ذروة الذرى وغاية الغايات. وإذا فسد فهمه أو تأويله فسد كل شيء. أقول ذلك ونحن نعلم أن مدشن حركة الإصلاح الديني في أوروبا، مارتن لوثر، كان معاصراً من الناحية الزمنية لمدشن الثورة العلمية كوبرنيكوس.
ومعلوم أن الإصلاح الديني أدى إلى تخفيف أعباء التراث وأثقاله عن كاهل الإنسان المسيحي في أوروبا فانطلق بعدئذ لفتح العالم وتحقيق ذاته على الأرض. أو قل تصالحت السماء والأرض بفضله ولم تعد طبقة رجال الدين مليئة بالفساد كما كان يحصل سابقا.
ثم جاء التنوير بعده لكي يطرح القشور من الدين ولا يبقي إلا على الجوهر الروحي والأخلاقي فقط ولكي يقدم البديل المقنع عن التزمت الأصولي السائد والنزعات الطائفية البغيضة التي تفتك الآن بكل مجتمعات العرب والإسلام فتكا ذريعاً.
ولو اتسع لي الوقت لتكلمت عن الحداثة الأدبية أو الشعرية. فقد تخلص الشعراء من قيود الأوزان والقوافي التقليدية كما تخلص المؤمن الحديث من قيود التراث المتراكم وأصفاده وطقوسه التي لا تنتهي. وبالتالي فالحداثة هي مشروع تحرري على كافة الأصعدة والمستويات.
انها انفجار لكل الطاقات المكبوتة. إنها تصيب كل جوانب الحياة دفعة واحدة أو على مراحل. بهذا المعنى فهي معجزة فعلاً لأنها لم تتحقق حتى الآن إلا في أوروبا وأميركا الشمالية واستراليا واليابان إلى حد كبير. وجميع الأمم تصبو إليها دون أن تستطيع تجسيدها على أرض الواقع بكل جوانبها.
ولكنها سائرة على الطريق. بهذا المعنى فهناك طريق صيني إلى الحداثة، وطريق هندي، وطريق عربي إسلامي، الخ... بهذا المعنى أيضاً فإن الحداثة ظاهرة كونية وليست محلية كما يزعم خصومها الذين يكرهونها. ولكنها في كل نطاق ثقافي معين سوف تتلوَّن بألوانه وتتلبس بلباسه.
وبالتالي فليطمئن دعاة الخصوصية والأصالة إذن. فالتراث العربي الإسلامي بعد الحداثة أو تحديث الفكر الديني سوف يبدو أكثر بهاء وجمالاً، أو أقل قمعاً وإكراهاً، مما كان عليه قبلها. وأكبر دليل على ذلك التجديد الراديكالي الرائع الذي يقدمه محمد أركون عن تراث الإسلام عن طريق عقلنته وتطبيق المناهج الحديثة عليه: كالمنهجية الألسنية، والمنهجية السوسيولوجية، والمنهجية التاريخية الخ.
إن جوهر مشروع الحداثة يتمثل في استقلالية العقل بالقياس إلى النقل، أو الفلسفة بالقياس إلى الدين دون أن يعني ذلك أبداً القضاء على الدين كما يفهم بعضنا عن خطأ حداثة أوروبا. فالدين في أوروبا لم ينته بعد انتصار الحداثة وإنما تحول مفهومه وتعقلن وتجدد. وعندما تقرأ أبحاث علماء الدين في أوروبا تكاد تتخيل وكأنك تقرأ أبحاث فلاسفة لا أبحاث رجال دين..
انظر مثلا كتابات عالم اللاهوت الألماني الشهير: هانز كونغ الذي اصدر مؤخرا كتابا هاما عن الإسلام. وليتنا نعرف الألمانية لكي نطلع عليه. ولكننا مضطرون لانتظار صدور الترجمة الفرنسية لكي يتاح لنا ذلك. والعرب، اين هم؟ لماذا لا يترجمونه؟ وهكذا أصبحت العلاقة مع الدين حرة بعد أن كانت قمعية وإكراهية. وهذا أقرب ما يكون إلى جوهر الدين الذي تنص عليه الآية الكريمة: «لا إكراه في الدين».
والآن أطرح هذا السؤال: أين نقف نحن كعرب وكمسلمين من مشروع الحداثة هذا؟ سوف أقول باختصار شديد اننا نعيش مرحلة انتقالية عسيرة لا يستبين فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود حتى الآن. وربما لن يستبين قبل مرور زمن طويل وخوض معارك طاحنة يشيب لهولها الولدان؟
المثقفون الأميركان يدعونها بالفوضى الخلاقة ولا أعتقد أن هذا المصطلح خاطئ كلياً على عكس ما يتوهم المثقفون العرب. أقول ذلك على الرغم من معارضتي للكثير من أطروحات وحماقات المحافظين الجدد. فالنظام الجديد الحر لا يتولد إلا بعد الفوضى والعذاب.
ولا بد من مصارعة الأمواج العاتية قبل الوصول إلى الشاطئ، ولا بد دون الشهد من إبر النحل. أما أولئك الذين يريدون الوصول إلى الحداثة أو التمتع بثمارها والتفيؤ بظلالها دون أن يدفعوا ثمنها مسبقا فليذهبوا إلى الجحيم؟ فهي لم تخلق لهم.. ولذلك لم يفاجئني إطلاقا ما يحصل في العراق حالياً.
بل وأعتبره شيئاً منطقياً لأن تصفية الحسابات التاريخية المعلقة هي الشرط المسبق والضروري لكل انطلاقة حضارية موفقة. وأكبر دليل على ذلك تجربة أوروبا نفسها. فهي لم تقلع حضاريا إلا بعد أن خاضت كل المعارك الطائفية والمذهبية وتجاوزتها.
وهذا ما ادعوه عادة بانتصار الذات على ذاتها بعد ان تمر في أتون المعاناة ومصهر التحدي. بالطبع فانه يؤلمنا جميعا استباحة بلد عربي كبير بهذا الشكل. ويؤلمنا سقوط كل هذه الضحايا البريئة من خلال تفجيرات إجرامية مروعة.
ويؤلمنا أن شعب العراق لم يستطع التخلص من الطغيان إلا عن طريق الغزو الأجنبي المقيت. وكل ما نرجوه هو أن يزول هذا الاحتلال البغيض بأسرع وقت ممكن. ولكن يخطئ من يظن أن كل المشاكل ستزول بزواله.
كاتب سوري، باريس
2007 الجمعة 25 مايو
البيان الاماراتية
هاشم صالح
الحداثة بالمعنى الحالي للكلمة هي ظاهرة نشأت في أوروبا منذ القرن السادس عشر وبلغت ذروتها في القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد قسمت التاريخ إلى قسمين: ما قبلها وما بعدها. فما قبلها كانت العصور الوسطى المسيحية أو محاكم التفتيش الظلامية، هذا بالإضافة إلى الفقر والجوع والزهد في الحياة الدنيا وانتشار أفكار الخوف والتعصب والحروب الطائفية أو المذهبية.
وما بعدها كانت الحضارة العلمية والتكنولوجية والفلسفية والعلمانية والتقدم المادي والاقتصادي الذي لا مثيل له في التاريخ. ولو نهض أناس القرون الوسطى من قبورهم ونظروا من حولهم لجن جنونهم وهم يرون كل هذه الحضارة المزدهرة التي قلبت الأمور عاليها سافلها وغيرت وجه الأرض.
بهذا المعنى فالحداثة معجزة بدون أدنى شك. وللتأكد من ذلك يكفي أن تنتقل بالطائرة من عواصم الغرب إلى عواصم العرب والمسلمين لكي ترى الفرق الشاسع ولكي تدرك أنك قطعت ثلاثة قرون لا ثلاث ساعات أثناء رحلتك القصيرة بالطائرة.
ولكن بعضنا ممن يحاول تعزية نفسه يقول ان الحداثة هي مجرد أسطورة أو حتى وهم وسراب بل؟ ويقولون بأنها كلها كفر وإلحاد واباحيات وسلبيات.. والسؤال المطروح هو التالي: إذا كان الأمر كذلك فلماذا تحاول كل أمم الأرض كالصين والهند وروسيا أن تلحق بركب الغرب وتدخل إلى جنة الحداثة؟ لماذا تزحف نحوها زحفاً بكل يديها ورجليها؟
لا يوجد بلد واحد في العالم إلا وهو يحلم بأن يتوصل إلى نفس التقدم المادي والعلمي والطبي والرفاهية الاقتصادية التي وصلت إليها الشعوب الأوروبية أو الأميركية الشمالية. كلنا نحلم بأن نذوق طعم الحداثة والحياة الاستهلاكية والحريات الشخصية التي تتمتع بها الشعوب المتقدمة.
ولا يوجد بلد واحد في العالم يقول (على الأقل ظاهرياً) بأنه ضد الديمقراطية وحقوق الإنسان. هذا لا يعني بالطبع أنه لا توجد نواقص في الحداثة، أو أنها لا تعاني من أزمات وانسدادات أو شطط وانحرافات. ولكني قررت في هذه المقالة ألا أتحدث إلا عن إيجابيات الحداثة.
لماذا؟ لأني كالعديد من المثقفين العرب أتمنى أن تخرج مجتمعاتنا من حالة التخلف والأصولية والاستبداد إلى حالة التقدم والاستنارة والحريات. ولكي أفهم الحداثة، لكي أقدم عنها صورة تبسيطية واضحة، أجد نفسي مضطراً لتقسيمها إلى حداثات.
فهناك أولاً الحداثة المادية أو العلمية والتكنولوجية التي تبهر أبصارنا نحن الشرقيين بمجرد أن تطأ أقدامنا الأرض الأوروبية. وهي التي نحسدهم عليها بالدرجة الأولى إذا ما استثنينا مسألة الحريات الفردية وعدم الخوف المرعب من الطغاة والحكام، الخ.
وهناك ثانياً الحداثة الفلسفية المرتبطة بالأولى بشكل أكبر مما نظن. والدليل على ذلك هذه العبارة التي انتشرت في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر: لولا نيوتن لما كان كانط. والمقصود بذلك أنه لولا الاكتشافات العلمية الهائلة لإسحاق نيوتن لما استطاع فيلسوف الألمان أن يشكل أكبر فلسفة في العصور الحديثة.
وبالتالي فتقدم الفلسفة العقلانية مرتبط بتقدم العلم الفيزيائي واكتشاف قوانين الطبيعة والكون. ونحن العرب خسرنا المعركة منذ ان كانت حركة العلم والفلسفة قد توقفت عندنا ودخلنا في عصور الانحطاط الطويلة.
وهناك ثالثاً الحداثة الاقتصادية التي قضت على المجاعات الكبرى داخل النطاق الأوروبي على الأقل ورفعت مستوى المعيشة للطبقات الوسطى وعموم الشعب. انظر مثلا إلى حالة الرفاهية السائدة في البلدان الاسكندنافية كالسويد والنرويج والدنمارك حيث تؤمن لك الدولة كل شيء تقريبا وحيث لا يوجد أي فساد إداري أو سياسي وحيث الوزير مسؤول عن كل فلس يصرفه.
وهناك رابعاً الحداثة السياسية المتمثلة بالثورات الثلاث: الإنجليزية (1680)، فالأميركية (1776)، فالفرنسية (1789). فبعدها دخلنا في عصر الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان وسيادة الشعب وحق التصويت العام والتناوب على السلطة ووجود الأغلبية والمعارضة، وعدم سجن الناس على آرائهم السياسية.
وهناك خامساً الحداثة الدينية. وكان ينبغي أن أقول أولاً الحداثة الدينية لأن الدين هو ذروة الذرى وغاية الغايات. وإذا فسد فهمه أو تأويله فسد كل شيء. أقول ذلك ونحن نعلم أن مدشن حركة الإصلاح الديني في أوروبا، مارتن لوثر، كان معاصراً من الناحية الزمنية لمدشن الثورة العلمية كوبرنيكوس.
ومعلوم أن الإصلاح الديني أدى إلى تخفيف أعباء التراث وأثقاله عن كاهل الإنسان المسيحي في أوروبا فانطلق بعدئذ لفتح العالم وتحقيق ذاته على الأرض. أو قل تصالحت السماء والأرض بفضله ولم تعد طبقة رجال الدين مليئة بالفساد كما كان يحصل سابقا.
ثم جاء التنوير بعده لكي يطرح القشور من الدين ولا يبقي إلا على الجوهر الروحي والأخلاقي فقط ولكي يقدم البديل المقنع عن التزمت الأصولي السائد والنزعات الطائفية البغيضة التي تفتك الآن بكل مجتمعات العرب والإسلام فتكا ذريعاً.
ولو اتسع لي الوقت لتكلمت عن الحداثة الأدبية أو الشعرية. فقد تخلص الشعراء من قيود الأوزان والقوافي التقليدية كما تخلص المؤمن الحديث من قيود التراث المتراكم وأصفاده وطقوسه التي لا تنتهي. وبالتالي فالحداثة هي مشروع تحرري على كافة الأصعدة والمستويات.
انها انفجار لكل الطاقات المكبوتة. إنها تصيب كل جوانب الحياة دفعة واحدة أو على مراحل. بهذا المعنى فهي معجزة فعلاً لأنها لم تتحقق حتى الآن إلا في أوروبا وأميركا الشمالية واستراليا واليابان إلى حد كبير. وجميع الأمم تصبو إليها دون أن تستطيع تجسيدها على أرض الواقع بكل جوانبها.
ولكنها سائرة على الطريق. بهذا المعنى فهناك طريق صيني إلى الحداثة، وطريق هندي، وطريق عربي إسلامي، الخ... بهذا المعنى أيضاً فإن الحداثة ظاهرة كونية وليست محلية كما يزعم خصومها الذين يكرهونها. ولكنها في كل نطاق ثقافي معين سوف تتلوَّن بألوانه وتتلبس بلباسه.
وبالتالي فليطمئن دعاة الخصوصية والأصالة إذن. فالتراث العربي الإسلامي بعد الحداثة أو تحديث الفكر الديني سوف يبدو أكثر بهاء وجمالاً، أو أقل قمعاً وإكراهاً، مما كان عليه قبلها. وأكبر دليل على ذلك التجديد الراديكالي الرائع الذي يقدمه محمد أركون عن تراث الإسلام عن طريق عقلنته وتطبيق المناهج الحديثة عليه: كالمنهجية الألسنية، والمنهجية السوسيولوجية، والمنهجية التاريخية الخ.
إن جوهر مشروع الحداثة يتمثل في استقلالية العقل بالقياس إلى النقل، أو الفلسفة بالقياس إلى الدين دون أن يعني ذلك أبداً القضاء على الدين كما يفهم بعضنا عن خطأ حداثة أوروبا. فالدين في أوروبا لم ينته بعد انتصار الحداثة وإنما تحول مفهومه وتعقلن وتجدد. وعندما تقرأ أبحاث علماء الدين في أوروبا تكاد تتخيل وكأنك تقرأ أبحاث فلاسفة لا أبحاث رجال دين..
انظر مثلا كتابات عالم اللاهوت الألماني الشهير: هانز كونغ الذي اصدر مؤخرا كتابا هاما عن الإسلام. وليتنا نعرف الألمانية لكي نطلع عليه. ولكننا مضطرون لانتظار صدور الترجمة الفرنسية لكي يتاح لنا ذلك. والعرب، اين هم؟ لماذا لا يترجمونه؟ وهكذا أصبحت العلاقة مع الدين حرة بعد أن كانت قمعية وإكراهية. وهذا أقرب ما يكون إلى جوهر الدين الذي تنص عليه الآية الكريمة: «لا إكراه في الدين».
والآن أطرح هذا السؤال: أين نقف نحن كعرب وكمسلمين من مشروع الحداثة هذا؟ سوف أقول باختصار شديد اننا نعيش مرحلة انتقالية عسيرة لا يستبين فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود حتى الآن. وربما لن يستبين قبل مرور زمن طويل وخوض معارك طاحنة يشيب لهولها الولدان؟
المثقفون الأميركان يدعونها بالفوضى الخلاقة ولا أعتقد أن هذا المصطلح خاطئ كلياً على عكس ما يتوهم المثقفون العرب. أقول ذلك على الرغم من معارضتي للكثير من أطروحات وحماقات المحافظين الجدد. فالنظام الجديد الحر لا يتولد إلا بعد الفوضى والعذاب.
ولا بد من مصارعة الأمواج العاتية قبل الوصول إلى الشاطئ، ولا بد دون الشهد من إبر النحل. أما أولئك الذين يريدون الوصول إلى الحداثة أو التمتع بثمارها والتفيؤ بظلالها دون أن يدفعوا ثمنها مسبقا فليذهبوا إلى الجحيم؟ فهي لم تخلق لهم.. ولذلك لم يفاجئني إطلاقا ما يحصل في العراق حالياً.
بل وأعتبره شيئاً منطقياً لأن تصفية الحسابات التاريخية المعلقة هي الشرط المسبق والضروري لكل انطلاقة حضارية موفقة. وأكبر دليل على ذلك تجربة أوروبا نفسها. فهي لم تقلع حضاريا إلا بعد أن خاضت كل المعارك الطائفية والمذهبية وتجاوزتها.
وهذا ما ادعوه عادة بانتصار الذات على ذاتها بعد ان تمر في أتون المعاناة ومصهر التحدي. بالطبع فانه يؤلمنا جميعا استباحة بلد عربي كبير بهذا الشكل. ويؤلمنا سقوط كل هذه الضحايا البريئة من خلال تفجيرات إجرامية مروعة.
ويؤلمنا أن شعب العراق لم يستطع التخلص من الطغيان إلا عن طريق الغزو الأجنبي المقيت. وكل ما نرجوه هو أن يزول هذا الاحتلال البغيض بأسرع وقت ممكن. ولكن يخطئ من يظن أن كل المشاكل ستزول بزواله.
كاتب سوري، باريس
----------------------------------------------------
التكفيريّة كإيديولوجية خلاصية
"التكفيرية" معتقدٌ قديم جداً في العالم الإسلامي، شهد انبعاثاً في أوساط المناضلين الإسلاميين المصريين بعد الهزيمة أمام إسرائيل في عام 1967. وترتكز التكفيرية على قناعة مفادها بأن ضعف الأمّة هو نتيجة انحراف المسلمين أنفسهم، وابتعادهم عن دينهم. فكلّ مسلمٍ لا يمارس دينه هو كافر، ومن ينطوون تحت هذه العقيدة مدعوون لمغادرة المجتمعات الإسلامية القائمة، بغية تكوين مجتمعات مستقلّة لمحاربة المسلمين الذين كفروا.
وخلال السبعينيات، ظهرت بوادر بعض الجماعات التكفيرية المعزولة في العالم العربي؛ ثم تجمّعت هذه في أفغانستان في الثمانينيات، إلى جانب المجاهدين، خلال الحرب ضد الاحتلال السوفيتي. وكان المصري أيمن الظواهري، والقائد الأوزبكي طاهر يلديشيف، والشيخ عيسى، وهم الذين سيصبحون لاحقاً من زعماء القاعدة ، من بين أكثر العناصر حماسة للتوجّه التكفيري. وقد ازدهرت هذه العقيدة في العراق، بعد الاجتياح الأميركي، وكان من بين المتحمّسين لها أبو مصعب الزرقاوي، مسؤول القاعدة في العراق الذي قتل في 7 حزيران/يونيو 2006.
ابتداءً من 2003، برز الخيار التكفيري بين المسؤولين الوسيطين والمناضلين العاديين في القاعدة. وباقتناع هؤلاء المناضلين بأن وجود الكفّار داخل المجتمعات الإسلامية يمدّ العدو بالقوّة ويمثّل خطراً يجب التخلّص منه، لم يعد موقفهم يتحددّ انطلاقاً من عدائهم للسياسة العسكرية الأميركية فقط. فالتكفيري هو عدوّ كل مسلم لا يمارس دينه الإسلامي بشكلٍ حرفيّ. وبغية إعادة الأفراد المنحرفين إلى الصراط المستقيم، يجب التخلّص أولاً من مسؤولي المجتمعات الإسلامية "الكافرة". وقد تحوّلت الجبال الوعرة في شمال وجنوب وزيرستان معقلاً جديداً لهم.
تختلف هذه الأفكار تماماً عن أفكار منظّري القاعدة في التسعينيات الذين كانوا يسعون حصراً إلى طرد "قوات الاحتلال" الغربية من بلاد المسلمين؛ أمّا التكفيريون من جهتهم فهم معنيون بعدوّ الداخل. ولقد كان الدرس الذي تعلّموه من 11 أيلول/سبتمبر في منتهى البساطة: لقد تمّ قتلهم ووضعت جوائز لمن يأتي برؤوسهم، وتعرّضوا للقصف من الكفّار الغربيين ومن كفّار باكستان. فباتوا يرفضون التمييز بين المسلمين والمسيحيين، أو الباكستانيين والأميركيين، أو حتى بين مشرّف وبوش. إذ يجب التخلّص من عدوّ الداخل لمواجهة الغزاة. هذا ما يفسّر الاعتداءات المتكررة التي تعرّض لها الرئيس الجنرال في باكستان خلال السنوات الأربعة الماضية.
وسواء أكان المناضلون التكفيريون ينتمون إلى القاعدة أم إلى إحدى المجموعات الدائرة في فلكها، فإنهم يسعون وراء هدفٍ مزدوج. إذ عليهم مواصلة الحرب ضد الجيوش الغربية، في الوقت الذي يرسون فيه قواعد الدولة "الإسلامية" القويمة التي توفر الانضباط التام للمؤمنين. ومع رفعهم راية التمرّد في وجه الدول الإسلامية، فهم يحاربون جميع الإصلاحيين المعتدلين حتّى داخل المقاومة نفسها في وزيرستان. والتكفيريون يرفضون الشيعة على أنها انحراف غير مقبول في نظرهم؛ ومحاربتهم جزء من الجهاد، بل هي تتصدّره أحياناً. التكفيريون يؤمنون إذاً بدورهم الخلاصي في القيادة الحصرية للمعركة ضد الغرب الكافر وضد المسلمين المرتدّين.
* مدير مكتب باكستان لصحيفة "آسيا اون لاين" (هونغ كونغ)
----------------------------------------------------------