
النظام السوري واسترضاء أميركا: حلم صعب المنال
رامز صافي
هناك أخبار وأحداث، رغم أهميتها، تمر عليها الصحافة مرور الكرام ولا تنال ما تستحقه من تحليل أو نقاش. مثال ذلك خبر لقاء مفتي الجمهورية العربية السورية أحمد بدر الدين حسون بالحاخام الأكبر للجالية اليهودية في النرويج يوئاف مليكور وهو نجل عضو الكنيست الإسرائيلي عن حزب العمل ميخائيل مليكور.
موقع "سيريا نيوز" اأورد الخبر كما يلي: وذكرت الإذاعة الإسرائيلية أن "الاجتماع عقد في الكنيس الكبير في أوسلو عاصمة النرويج حيث وجه المفتي حسون دعوة إلى الحاخام ملكيور لزيارة سورية "، الذي رد "بإنه ينظر بإيجابية إلى هذه الدعوة".
وحول لقاء حسون بالحاخام قال مدير مكتب مفتي الجمهورية في حلب عبد الغني بكار في اتصال لـ "سيريا نيوز" إن "هدف زيارة المفتي حسون للنروج للقاء رجال الدين المسيحي واليهودي لعرض صورة إيجابية عن قيم الدين الإسلامي وأخلاقه الإنسانية ومبادئه الأصيلة التي تستند على حب الشعوب والنظر إليها برؤية إنسانية بمعزل عن شريعتها الدينية".
وحسب موقع "العربية نت" قال حسون إنه دعا خلال لقاء الحاخام اليهودي إلى عودة يهود سوريا إلى بلدهم "فلهم بيوتهم وكنيسهم وأملاكهم كلها مفتوحة لهم، وسيكون لهم حقوق مثل أي سوري آخر". وتابع "لم يطرد أي يهودي من سورية ولا يوجد منع مغادرة ضدهم. هم هربوا وسافروا بدون أي ضغوط وكل أملاكهم كما هي، ويوجد لهم في دمشق وحلب كنيسان ولا أعرف عددهم بالضبط.
ولأن مثل هذا اللقاء، وهذا رأيي، لا علاقة له بتعريف الحاخام المحترم بقيم الإسلام وأخلاقه التي يعرفها أكثر منا، ولأني اعتقد أن لهذا اللقاء أهداف سياسية تحتاج للتوضيح لم يفصح عنها سماحة المفتي حسون، ولأن ما حدث ليس جديداً على التاريخ، أستعيد من ذاكرة هذا التاريخ القريب أحداث أيام عشتها بوعي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية في أواخر الثمانينات من القرن الماضي أعتقد أنها تشبه إلى حد بعيد ما يجري اليوم .
في أواخر أيام نظام حكم ايريش هونيكر وتفاقم أزماته اعتقد عقل النظام أن تحسين العلاقات الثنائية المتوترة مع أميركا سيساهم في دعم نظام الحكم على الساحة الدولية وسيسهل عليه بعدها بناء علاقات أكثر ايجابية مع الدوائر الغربية عموما.ً واعتقد كذلك أن استرضاء اللوبي اليهودي في أميركا (واسع التأثير حسب تقديرات القيادة الألمانية آنذاك) هو مدخل ضروري لا بد منه لاسترضاء أميركا، وهو بمثابة اشارة الفيزا لزيارة ايريش هونيكر الرسمية إلى واشنطن .
ولتحقيق هذة الرؤية قام هرمان أكسن ، عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الألماني الموحد، بتاريخ 6/6/1988 بزيارة رسمية إلى واشنطن، وكان حتى ذلك الوقت أعلى مسؤول ألماني شيوعي يزور أميركا رسمياً، وكانت ألمانيا الديمقراطية إحدى الدول الصناعية العشر الكبرى وعضو في حلف وارسو. قام باستقباله جورج شولتز وزير الخارجية الأميركي آنذاك، ونوقش في هذا اللقاء موضوع زيارة رئيس الحزب ايريش هونيكر اللاحقة إلى واشنطن، وكانت الآمال الألمانية المعقودة على هذه الزيارة التي جرى الإعداد لها في هذا اللقاء أنها ستشكل أعلى اعترافاً دولياً بنظام ايريش هونيكر.
وبتاريخ 18/10 من العام ذاته قام ادغار برونفمان، رئيس الكونغرس اليهودي العالمي، ولأول مرة بزيارة إلى ألمانيا الديمقراطية، استقبله إيريش هونيكر شخصياً وقال له في هذا اللقاء "إن ألمانيا الديمقراطية تعترف بمسؤوليتها عن الهولكوست وهي مستعدة لتقديم تعويضات مالية رمزية للضحايا". وقام هونيكر بتقليد برونفمان وسام النجمة الكبرى لصداقة الشعوب. بعد شهر واحد من الزيارة بدأت أعمال البناء لإعادة إعمار الكنيس اليهودي في برلين المهدم أثناء الحرب.
لم تتحقق الزيارة (الحلم) لواشنطن لأن النظام السياسي القائم في ألمانيا انهار قبلها، فقد خرجت الجموع إلى شوارع برلين ولم يتمكن النظام الحاكم من إدارة الأزمة الداخلية التي كان قد تجاهلها أربعين عاماً. هذا شيء من التاريخ القريب، ورغم أن المقارنات التاريخية لا تستقيم دائماً فسورية ليست ألمانيا، وهناك فوارق في درجة تطور البلدين واختلاف الظروف والثقافات، لكن ما يعنينا في هذا السياق هو الفكرة القائلة أن الحصول على التأييد الأميركي يخلص النظام من أزماته. وليس سراً أن عقل النظام السوري يرى أن أميركا هي مفتاح الحل والربط في منطقتنا وأن مواجهة الضغوط الخارجية الأمريكية وفك العزلة يكون عبر الوصول إلى اتفاق مع اسرائيل يجعل أميركا تعترف بالدور الاقليمي السوري، ولهذا لا بد من فتح أقنية مع المنظمات والجاليات اليهودية العالمية الواسعة التأثير.
وهكذا لا نستطيع رؤية لقاء مفتي الجمهورية مع الحاخام الأكبر في النرويج إلا من خلال رؤية مجموعة النشاطات والجهود السابقة والجديدة التي بذلها ويبذلها النظام السوري للوصول إلى كسب رضا أميركا، ومنها مساعي السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى في محاولة الوصول إلى الجالية اليهودية في أميركا، زيارة ابراهيم سليمان إلى اسرائيل الذي كان قبلها قد فاوض اسرائيل لمدة سنتين بسرية كاملة، يضاف ليها دور أمير قطر المميز في الوساطة بين سورية واسرائيل. ولا نعتقد بالتالي أن زيارة المستشار الألماني السابق شرودر الأخيرة لسورية والمعروف بقوة علاقاته مع اسرائيل، والدعم القوي والمتميز الذي قدمه للجالية اليهودية في ألمانيا خلال فترة حكمه إلا جزءاً من هذه الجهود التي يبقى قسم هام منها في حيز السرية، تماماً مثلما بقيت المفاوضات بين المفاوض السوري سليمان واسرائيل سرية إلى أن كشفت عنها إسرائيل.
والحقيقة إنه من المستحيل تصديق أن مفتي الجمهورية حسون يلتقي الحاخام الأكبر اليهودي في النرويج دون معرفة المسئولين السوريين وموافقتهم المسبقة، فسورية بلد تدار سياسته بصرامة بالغة ولامجال فيها للمبادرات الفردية. لا يجد النظام السوري حرجاً أن يعلم المواطن السوري بتفاصيل الحوارات والمفاوضات السرية مع إسرائيل التي دامت سنتين من الإذاعة والصحف الإسرائيلية وبتأكيد من المفاوض سليمان شخصياً. ولا يتجرأ احد في حزب البعث، الحزب القائد، أو الجبهة التقدمية أن يطلب توضيحاً من القيادة السورية أو دعوة السيد سليمان من قبل مجلس الشعب ليفتح تحقيقاً برلمانياً. ولا يغير النفي السوري الرسمي شيئاً أمام حقائق دامغة.
لا نعرف حقيقة هل سيستجيب الحاخام الأكبر مليكور لدعوة المفتي له بالعودة إلى بلده الأم سورية، ولا نعرف هل ومتى سيبدأ إصلاح الكنيس اليهودي في حلب ودمشق، لكن نعرف وبالتأكيد أن هناك آلافاً من السوريين غير اليهود في المهجر ممنوعون من العودة وهم يحلمون بلقاء بلدهم ورؤية ذويهم وربما يحلمون مثلي بطعام عشاء على سفح قاسيون. مسكين مفتي سورية الذي يستطيع أن يطلب من اليهود السوريين العودة إلى بلدهم الأم سورية ويطمئنهم على أملاكهم وكنائسهم، ولكنه لا يستطيع دعوة السوريين المنفيين الطوعيين والقسريين إلى العودة إلى بلادهم. وأحمق هذا النظام السياسي الذي يستطيع إرسال مئات الرسائل والمبعوثين إلى أميركا وإسرائيل عبر العالم، لكنه لا يستطيع دعوة المعارضة الوطنية إلى حوار وطني لحل أزمات البلد.
--------------------------------------------------------
صراع السياسي والنقد الذاتي
2007 الأربعاء 27 يونيو
الاتحاد الاماراتية
السيد يسين
2007 الأربعاء 27 يونيو
الاتحاد الاماراتية
السيد يسين
لا نبالغ لو قررنا أن غياب النقد الذاتي أحد أسباب تأجج الصراعات سواء أكان ذلك بين الدولة وبعض الحركات السياسية، أو بين حركات سياسية متصادمة. ويؤكد هذه الحقيقة الصراع الدامي الذي دار مؤخراً بين حركة "حماس" وحركة "فتح".
وقد سبق لنا أن عالجنا بالتفصيل قضية النقد الذاتي وخصوصاً في كتابنا "الشخصية العربية بين مفهوم الذات وصورة الآخر" (القاهرة، طبعة رابعة 2007)، وكتابنا الأحدث "المعلوماتية والحوار الحضاري" (القاهرة، 2003). ومن بين المقولات الأساسية التي صُغناها أن النقد الذاتي فضيلة غربية وليس ممارسة عربية!
وكنا بذلك نشير إلى أن النقد الذاتي يعد أحد أسباب التقدم الغربي. وقد أقرت الثقافة الغربية ألواناً متعددة من النقد الذاتي، فالأحزاب السياسية تمارس النقد الذاتي أحياناً وذلك حين يحس قادة حزب ما بأنهم أخطأوا في ممارستهم السياسية أخطاءً جسيمة فيعتذرون لجماهير حزبهم. وأحياناً يعتذر الزعماء السياسيون عن تقصيرهم فيمارسون النقد الذاتي علناً، كما فعل ليونيل جوسبان زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي، حين فشل فشلاً ذريعاً في انتخابات رئاسة الجمهورية الفرنسية أمام جاك شيراك، ولم يكتفِ بذلك ولكنه استقال من رئاسة الحزب، وأعلن اعتزاله للسياسة!
وقد مارس النقد الذاتي مثقفون ومفكرون بارزون. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما مارسه من نقد ذاتي عدد من أكبر المثقفين الفرنسيين، لأنه سبق لهم أن أيدوا الاتحاد السوفييتي ثم تبيَّن لهم أنه قوة إمبريالية، وأنه صبغ نفسه باللون الاشتراكي، وذلك بعد الغزو السوفييتي للمجر عام 1956، وعديدٌ منهم استقالوا من الحزب الشيوعي احتجاجاً على ما حدث.
وحين انهار الاتحاد السوفييتي عام 1989 تبعت ذلك موجات من النقد الذاتي مارسها مثقفون ماركسيون متعددون في بلاد غربية شتى، من بينها الولايات المتحدة الأميركية. ومن أبرز ممارسات النقد الذاتي الأميركية الكتاب الذي أصدره عالم الاجتماع الأميركي "آرنسون" وعنوانه "ما بعد الماركسية"، حيث حكى فيه قصة تبنيه للماركسية كإيديولوجيا تقدمية، ثم نقد نفسه لأنه -مع زملائه من الماركسيين- فشل في تقديم مشروع راديكالي لتغيير العالم، لأن المشروع الشيوعي كان فاشلاً منذ البداية، لأنه قام على قمع الحريات، ومحو الإرادة الفردية.
وإذا كنا قررنا من قبل أن النقد الذاتي أحد أسباب التقدم الغربي فذلك لسبب بسيط مفاده أنه يكشف الأخطاء ويشخِّص السلبيات، وهذه خطوات ضرورية لأي إصلاح سياسي أو اقتصادي أو ثقافي.
وفي هذا الصدد يقرر المفكر الفرنسي الشهير "جان بول سارتر" في كتابه "نقد العقل الجدلي" أنه لا يكفي الاعتراف بالأخطاء، ولكن ينبغي إعطاؤها التكييف الصحيح، أو بمعنى أصح تسمية المسمسات بأسمائها الحقيقية، وعدم المراوغة في الاعتراف بالحقيقة كما فعلنا ذات مرة حين أطلقنا على هزيمة يونيو 1967 صفة "النكسة"، ولم نصفها بالوصف الصحيح.
وأياً ما كان الأمر، فإنه يمكن القول إن ممارسة النقد الذاتي العربي بدأت بداية متواضعة عقب الهزيمة العربية في حرب عام 1948، التي انهارت فيها الجيوش العربية أمام إسرائيل.
عقب تلك الهزيمة أصدر المفكر اللبناني المعروف "قسطنطين زريق" كتاباً بعنوان "معنى النكبة"، تحدث فيه عن افتقار العرب للتفكير العلمي، وغياب الديمقراطية، باعتبارهما من أسباب الهزيمة العربية.
غير أن البداية الحقيقية للنقد الذاتي العربي حدثت بعد الهزيمة العربية الساحقة في حرب يونيو 1967. هذه الهزيمة أدت إلى زلزال في الوعي العربي من المحيط إلى الخليج، نظراً لأن المشروع القومي كان في ذروة تألقه، والآمال كانت كبيرة فيما يتعلق بمواجهة فعالة مع إسرائيل، ولا نقول بالضرورة انتصاراً ساحقاً. غير أن انهيار الجيوش العربية كان فادحاً، كما أن احتلال إسرائيل لأراضٍ شاسعة في الضفة الغربية وسيناء كان كارثة حقيقية. وقد شهدت الفترة اللاحقة للهزيمة الموجة الثانية من موجات النقد الذاتي العربي. وتصدى لها أساساً الفيلسوف السوري صادق جلال العظم بكتابه الشهير "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، وكذلك من منظور إسلامي عبدالله المُنجد في كتابه "أعمدة النكبة السبعة"، ومن منظور مسيحي أديب نصور في كتابه "النكسة والخطأ".
وقد دارت الانتقادات حول العيوب الجسيمة في التنشئة الاجتماعية للمواطن العربي، والافتقار إلى الديمقراطية، وغيابها. وقد فصلنا الحديث في هذه الانتقادات في كتابنا "الشخصية العربية" الذي أشرنا إليه من قبل.
أما الموجة الثالثة من النقد الذاتي العربي فقد جاءت -ويا للعجب- عقب فترة من الانتصار العربي المُبهر في حرب أكتوبر 1973، حين تبين بجلاء أن نموذج هذه الحرب وخصوصاً التخطيط المُحكم والتدريب رفيع المستوى، والأداء العالي، والروح المعنوية التي أدت إلى تحدى المستحيل وعبور خط "بارليف" المنيع، كل هذه الأمور عجزنا كعرب عن تحقيقها في مجالات التنمية المختلفة، ومن هنا ظل التخلف جاثماً على صدورنا، على رغم جزر التقدم هنا وهناك.
ومن أبرز أدبيات الموجة الثالثة للنقد الذاتي العربي ندوة "أزمة التطور الحضاري في العالم العربي" التي نظمتها جمعية الخريجين الكويتية عام 1973 في الكويت، وشارك فيها أبرز المفكرين العرب من المشرق والمغرب.
يحتاج الشعب العربي من المحيط إلى الخليج أن تمارس حركة "حماس" نقداً ذاتياً صريحاً للحرب الهمجية التي شنتها على مباني ومؤسسات وكوادر السلطة الفلسطينية ومنظمة "فتح" في غزة. وحركة "حماس" مدينة باعتذار رسمي للشعب العربي، لأن ما دار في حربها غير المُقدسة وما تضمنته من جرائم دموية، وأبرزها أحكام الإعدام الفورية التي نفذتها بدون تحقيق أو محاكمة لعدد من كوادر "فتح" وذلك في الشارع وأمام أسرهم، تتحدى بشاعته الجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني. ومن المؤسف حقاً أن يزج بالإسلام في هذه الحرب فترتفع الشعارات الإسلامية عن ضرورة إبادة "الفئة الباغية" استناداً إلى بعض آيات القرآن الكريم من خلال عملية تأويل مُنحرفة للنصوص الدينية.
ولأننا تعودنا أن نمارس النقد الاجتماعي المسؤول الذي لا ينحاز لطرف دون طرف، فإننا نؤكد أن منظمة "فتح" هي أيضاً مطالبة بممارسة النقد الذاتي لممارستها السياسية الخاطئة في المرحلة الماضية، وخصوصاً انغماس بعض قادتها في الفساد وممارسة القمع ضد خصومها.
النقد الذاتي الذي نطالب به كلاً من "حماس" و"فتح" هو المقدمة الضرورية لحوار سياسي مسؤول بين قادة الحركتين ،يتم تحت إشراف الجامعة العربية، بغرض جمع صفوف الشعب الفلسطيني المشتتة في مواجهة إسرائيل. وذلك لسبب مهم مؤداه أن الشعب العربي لا يمكن أن يقبل بحرب فلسطينية- فلسطينية تقضى نهائياً على أمل الشعب الفلسطيني الجريح في إقامة دولته المستقلة في ضوء حقوق الشرعية الثابتة. وهكذا يقف الفلسطينيون اليوم بكافة فصائلهم أمام محكمة التاريخ.
-----------------------------------------------

التلفزيون السوري والعداء للصحافة: يكاد المريب يقول خذوني!
محمد منصور
28/06/2007
يُنظر للتلفزيون باعتباره جزءا من وسائل الإعلام، وحين يعترف التلفزيون بنسبه إلي شجرة العائلة هذه... سوف يتذكر بالتأكيد أشقاءه الأكبر والأعرق ونعني: الصحافة والإذاعة... وقد استفاد التلفزيون في السنوات الأولي لدخوله المنطقة العربية لأغراض سياسية ودعائية، من أسلوب عمل الإذاعة والصحافة معا، ومن خبرة العاملين في كلا الحقلين حتي استطاع أن يقف علي قدميه قليلا، قبل أن يجري الحديث شيئا وشيئا عن عنصر الصورة باعتباره أمرا جوهريا يختلف به التلفزيون عن الإذاعة، وعن اللغة التلفزيونية، باعتبارها لغة لها أسلوبها وتقنياتها المختلفة عن لغة الصحافة.
لكن الصحافة التي هي فن البحث عن المتاعب، وجدت دائما في التلفزيون بؤرة للمتاعب التي تستحق الاهتمام، نظرا للدور الجماهيري الذي يلعبه... ولذلك ظلت الصحافة بالنسبة للتلفزيون مثل الأخ الناصح، الذي يحاول أن يستوعب سفه وعبث شقيقه الأصغر، ولكنه حين يقطع الأمل من أن يجد لديه أذنا صاغية، قد يقسو عليه ويشهر به، أملا في أن يجد رادعا لتحسين أدائه، والوعي بأهمية دوره.
وإذا أردنا أن نسقط كل هذه المفاهيم والمقدمات علي آلية عمل تلفزيونية تفسرها وتشرحها، فإننا بالتأكيد لن نجد أفضل من تجربة التلفزيون السوري، التي تقدم نموذجا لعلاقة (الأخوة الأعداء) ليس بين التلفزيون والصحافة فقط، بل وبين التلفزيون وجوهر البحث عن الحقيقة الذي يمثل روح الصحافة في كل زمان ومكان!
عملتُ في التلفزيون السوري لأكثر من خمسة عشر عاما، معدا للبرامج وكنت آتياً من الصحافة، التي علمتني أن الصحافي الذي يصفق ويهلل وينافق ليس صحافياً... وقبل دخولي التلفزيون كزائر وبعده، كنت أجد في الصحافة ملاذي وبيتي... لكنني سرعان ما اكتشفت أن انتمائي الصحافي، هو مدعاة للريبة والنفور والشك... لأن هذا يعني أنني أريد أن ألتقط خبرا، أو أكشف سرا، أو أميط اللثام عن حالة فساد... وبالتالي يجب اجتنابي، والسكوت أمامي، وحجب المعلومات عني... حتي لو كنت في الوجه الآخر أعمل ضمن طاقم عمل كبير يسعي ما أمكنه لتطوير برنامج هنا، أو تقديم فكرة جديدة هناك.. ويرتبط بما يمكن أن يسمي في مؤسسات سليمة ومعافاة: علاقات زمالة!
وخلال الخمسة عشر عاما الماضية، ُمنعتُ من دخول التلفزيون السوري ست مرات في عهود تعاقب عليها مدراء عامون ومدراء تلفزيون عديدون... والغريب أنني خلال المرات الست، لم يكن المنع بسبب خطأ برامجي ارتكبته في البرامج الكثيرة التي توليت إعدادها، أو سرقة مالية من السرقات الكثيرة التي تحدث في ميزانيات البرامج وما يجري في كواليسها، أو تجاوز أخلاقي من التجاوزات التي تقترب أحيانا من حدود الفضائح الجنسية... بل كانت كل أسباب المنع بلا استثناء هي التعبير عن رأيي ككاتب صحافي، سواء في برامج التلفزيون السوري نفسه، أو في قضايا سياسية عامة خارج إطار الصحافة السورية.
وبعيدا عن تداعيات الحالة الشخصية التي لا تخلو من مدلولات عامة... فالمشكلة كانت تبدأ أن الصحافي الذي يريد أن يدخل مبني التلفزيون السوري، حتي لمجرد أن يغطي حدثا، أو يتابع خبرا، يجب أن يحصل علي موافقة من إدارة التلفزيون نفسه، فإما تضع اسمه مسبقا عند المفرزة الأمنية التابعة لفرع المداهمة التي تحرس التلفزيون من رمشة العين... أو تمنحه بطاقة دخول مؤقتة تجدد كل ثلاثة أو ستة أشهر حسب الرضا. وبالتالي فالإدارة يحق لها إن لم تعجبها الطريقة التي تكتب فيها عن التلفزيون، أو عن ظواهر الفساد المزمنة التي فيه... أن تعاقبك وأن ترفض استقبالك باعتبارك زائرا غير مرغوب به... وقد حدث أن اشتكيت لمرة واحدة لنقيب الصحافيين السابق الدكتور صابر فلحوط، لكن وجود ابنته كمذيعة في التلفزيون، منعه من أن يمارس واجبه كنقيب للصحافيين علي النحو الذي يحب!
أما من يستطيع أن يحصل علي دعم يجعل دخوله إلي المبني أمرا تافها وشكليا... فسيكون له علاج آخر غير المنع عينك عينك! فهو إما سيخضع لرشوي مبطنة بالتلويح له بإعداد برنامج ما، أو سيخضع لرشوي معنوية عن طريق إرضاء غروره بمسألة حب الظهور التلفزيوني في البرامج بطعمة وبلا طعمة كي يحقق شيئا من النجومية التي لا تتحقق للصحافي السوري بفعل أدائه الصحافي بسبب الوضع المبكي للصحافة السورية الذي يعرفه القاصي والداني!
تكره أروقة التلفزيون السوري علي العموم الوجوه الصحافية المتعبة (بكسر العين)، التي لا تعرف لغة المديح والتي تحب بالفطرة الصحافية السليمة التي لم يشوهها التدجين أن تكتب عن الفساد الذي يعشعش ويستشري، فيجعل من العاملين في أسر وسلالات وأنساب أين منها عهود الإقطاعيات وعائلات المهن... فالمذيعة المدعومة بعد سنوات قليلة توظف شقيقتها وشقيقها وأولاد خالتها وعمومتها، والمحاسب يجعل من ابنه فني المونتاج المبتدئ مونتير دراما بين ليلة وضحاها حيث فارق الأجور يستحق فعلا... والمسؤول الأمني يشغّّل ثلاثة أرباع أسرته، وهذا ينقل زوجته من وزارة أخري كي تداوم معه في التلفزيون بضع ساعات علي مزاجها... وذاك ينقل زوجته من عاملة مقسم أو سكرتيرة كي تصبح مساعدة مخرج أو مخرجة... والكثير الكثير من الظواهر التي تشعر إدارات التلفزيون المتعاقبة أنها تهدد سمعتها وترمي بيتها الذي من زجاج بالحجارة... فتقرر أن تنظر للصحافة باعتبارها فعل شر وأذي وخراب بيوت، لا فعل نقد وقول كلمة حق في ضرورة إصلاح وتطوير مؤسسة تحمل سمعة وطن... ويمكن أن تلوث شيئا من تلك السمعة أيضا حين تتخلف وتصبح خارج قيم المنافسة والحضور!
والعداء للصحافة لا يقتصر علي إدارة التلفزيون بقنواته المختلفة، بل يسري إلي الأعلي ليشمل وزراء الإعلام، الذين يفترض أن مهمتهم تطوير عمل الصحافة وحماية الصحافيين... لكن هذا لم يمنع وزراء سابقين أن يصدروا توجيها بعدم نقد التلفزيون في الصحافة المحلية، أو وزراء لاحقين أن يصدروا هم بأنفسهم قرارات العقاب بحق الصحافيين الذين يتجرؤون علي كشف ملفات التلفزيون السوداء في الصحافة العربية أو علي شبكة الإنترنت. وإذا اعتبرنا أن تطوير التلفزيون في كل أنحاء العالم يتم من خلال الارتقاء بالخبرة التقنية التلفزيونية شكلا، وتشجيع روح العمل الصحافي في الرؤية والمعالجة مضموناً، فإننا سنجد أن بعض البرامج الجيدة كبرنامج (ملفات حرة) للصحافي إبراهيم ياخور منعت وأوقفت، لأنها كانت أمينة لجوهر العمل الصحافي في الرؤية التلفزيونية: البحث عن الحقيقة بلا خوف من عواقب وهواتف!
وقد تعاقب علي إدارة بعض مفاصل التلفزيون السوري في السنوات الأخيرة بعض الصحافيين والصحافيات، لكن هذا لم يغير في جوهر الأمر شيئا، لأن هؤلاء كانوا في كتاباتهم الصحافية لا يهشون ولا ينشون، فهم لم يمنعوا يوما من الكتابة... ولم يجرجروا إلي فروع الأمن للتحقيق معهم بسبب آرائهم وكتاباتهم... بل كانوا يصعدون في سباق حواجز أمنية بلا إنجاز مهني يستحق الذكر، وكانوا أيضاً أقرب إلي شهود الزور في الوقت الذي تحتاج فيه الصحافة كي ترقي وكي تعبر عن وجع الناس إلي شهود من نوع آخر. وفي الحالات التي كان يلجأ فيها أهل التلفزيون، تحت ضغط العسف الإداري، وسد الآذان والأبواب في وجوههم، إلي الصحافة لبث شكواهم وإيصال صوتهم، كانت عبارات التهديد والوعيد تتعالي في وجوههم... فمن يذهب إلي الصحافة، فليطلب منها أن تحل له مشكلته إن استطاعت... وهي عبارة بعث بها أكثر من مدير لأكثر من متضرر في أكثر من عهد، وآخرهم السيد ماجد حليمة المدير العام الحالي، ردا علي شكوي إحدي الممثلات علي تجاوز استبدال مخرج لها في مسلسل من إنتاج التلفزيون، بعد توقيع العقد رسميا... ومن دون حتي الاعتذار منها!
وهذه الروح الكيدية التي تستهين بدور الصحافة، وتري أن البديل هو الصمت والاستجداء والتغاضي عن الكرامات... لا تحكم مدراء الهيئة من فراغ... بل من صلف حقيقي في التمادي بالخطأ لأنه ليس هناك من يحاسب!
إن علاقة التلفزيون السوري بالصحافة هي جزء من فهم مشكلته... فحتي في الوقت الذي صار فيه التلفزيون السوري آخر خيارات المشاهد المحلي في المتابعة والاهتمام، استمر نهج العداء للرأي الآخر الذي كانت تمثله الصحافة أو ما تبقي منها أحيانا، كي يكرس واقعا يقول: إن التلفزيون هو حصن الرأي الواحد الذي لا يجب اختراقه، وإذا ما تم الحديث عن الرغبة اليائسة في تطويره، فيجب أن يتم ذلك بمعزل عن منغصات وشرور ووجع رأس الرأي الآخر مهما كانت درجة اختلافه الفني والإعلامي والخدماتي... ولن نقول السياسي بالتأكيد!
(فنون) الخاسرة ماديا ومعنويا!
ولا يكتمل الحديث عن علاقة التلفزيون السوري بالصحافة، من دون الإشارة إلي المجلة نصف الشهرية التي كان يصدرها التلفزيون تحت عنوان (هنا دمشق) وتوقفت في ثمانينيات القرن العشرين، وكانت مجلة ُتقرأ لأنها كانت تنطوي علي حرفية وهامش صحافي ورغبة في تقديم الأفضل، قبل أن تعود بشكل أسبوعي في منتصف التسعينيات تحت اسم (فنون) لتشكل نموذجا باهتا لمجلة فنية تولد ميتة كل أسبوع، رغم أن سورية فيها حركة فنية وتلفزيونية ناشطة اليوم... مجلة لا يتجاوز رقم توزيعها في الأسواق السورية الخمسمئة نسخة رغم رخص ثمنها، ولا يهتم بها حتي موظفو التلفزيون نفسه رغم مجاملاتها السمجة لهم... والغريب أن وزارة الإعلام السورية تخسر الملايين سنويا علي الإنفاق علي هذه المجلة الخاسرة ماديا، من دون أي مردود معنوي يذكر...سوي تكريس الصورة البائسة التي تفضلها إدارات التلفزيون السوري للعمل الصحافي الذي ينطبق عليه القول المأثور: لأنك لست باردا ولا حارا... تقيأتك نفسي !
القدس العربي كاتب من سورية
mansoursham@hotmail.com
---------------------------------------------