صبحي حديدي
في مطلع أيلول (سبتمبر) القادم، تصدر في باريس، عن دار النشر Actes Sud، الترجمة الفرنسية لنصّ فريد يمزج بين الرواية والشهادة الذاتية الصرفة، بعنوان "القوقعة"، للسجين السوري السابق مصطفى خليفة، الذي قضى قرابة 15 سنة بين سجنَيْ تدمر وصيدنايا. وإلى أن تكون لي، كما أرجو، وقفة مفصّلة عند هذا العمل المتميّز، الآسر رغم وقائعه الكابوسية أو ربما بسبب من هذه السمة أوّلاً، أشير دون إبطاء إلى أنّ "القوقعة" ليست النصّ الوحيد اللافت في الطور الراهن من أدب السجن السوري. هنالك أعمال سردية لأمثال عماد شيحا وإبراهيم صموئيل وحسيبة عبد الرحمن ولؤي حسين وهبة دباغ ومالك داغستاني، فضلاً عن قصائد عدنان مقداد التي لم تر النور في حدود ما أعلم.
لكني، ولكي أشدّد على تلازم أخلاقيات الاستبداد العربي، أذهب إلى المغرب لاستذكار تجربة أخرى سابقة في أدب السجن العربي المعاصر، وأعني رواية "العريس" للشاعر والروائي المغربي صلاح الوديع. وأبدأ من هذه الواقعة: في نيسان (أبريل) 1999 كان الملحق الثقافي لصحيفة «الإتحاد الإشتراكي» المغربية قد نشر «رسالة مفتوحة» وجهها الوديع إلى «الجلاّد» الذي أشرف على اعتقاله وتعذيبه طيلة عشر سنوات، بين عام 1974 و1984، في مركز الإعتقال والتحقيق والتعذيب الذي يحمل اسم «درب مولاي الشريف». وفي رسالته استعرض الوديع سلسلة العذابات التي عاشها في المعتقل، واللذائذ الإنسانية التي حُرم منها جرّاء احتجازه، لكي يختم رسالته هكذا: "حين أستعيد كلّ هذا، أتساءل كيف نستطيع ـ أنا وأنت ـ أن ننتمي إلى نفس الوطن، وأن نتفيأ نفس الشجر، وتلفحنا نفس الشمس، ويبللنا نفس المطر، ونمشي في نفس الطرقات، ونتحدث بنفس اللغة، ونؤمن بنفس المستقبل. ومع ذلك، فأنا لست حاقداً عليك. وقد تفاجئك قدرتي على الصفح والغفران. ولكنني لا أستطيع أن أشارك في مسرحية عنوانها النسيان، مسرحية سمجة تهدر حقوق الضحايا وتدمّر ذاكرتنا الجماعية. لست حاقداً ولا متشفياً. ولكنني لست مستعداً للاستخفاف بالآلام. لست مستعداً لترك الباب مشرعاً أو مفتوحاً أو حتى موارباً لعودة الإمتهان والعسف والهوان.. فأنا شاهد ولا بدّ لي من الإدلاء بالشهادة».

الشهادة تلك اتخذت صيغة رواية تدور، باختصار شديد، حول اعتقال مواطن مغربي شابّ أثناء مشاركته في عرس ابن عمّه (ومن هنا لقب «العريس» الذي اختاره له سجّانوه)؛ وبعد مرور 433 يوماً في المعتقل، وعشرات من أفانين التعذيب أثناء التحقيق، ينتهي السجين محمّد إلى الجنون، وتنتهي حكايته ههنا تحديداً؛ وأمّا تجربته في السجن فترويها 26 رسالة كتبها إلى أمّه، ونقلها مجهول كان زميلاً له في المستشفى. لهذا فإنّ «العريس» شهادة في المقام الأوّل، بل هي وثيقة استثنائية حول التقاليد الأسوأ والأشدّ بربرية في ثقافة امتهان الإنسان وتحويل الجسد البشري إلى مادّة خام لتطبيق وتوظيف تقنيات العنف البهيمي الأقصى، الذي ينتهي إلى مآلات رهيبة مثل التشوّه أو الجنون أو الموت.
وهي شهادة جديرة باحتلال موقع رفيع ليس في الذاكرة الجَمْعية المغربية فحسب، بل أيضاً في الوجدان العربي المعاصر بأسره، وفي تراث المقاومة الإنساني الذي لا تكفّ الشعوب عن كتابة صفحاته هنا وهناك في معتقلات العالم. ذلك لأنّ عنصر الشهادة في النصّ لا يخدم التسجيل الذاتي وحده، بل يؤدّي الخدمة الكبرى للذاكرة الجَمْعية أوّلاً، خصوصاً وأنّ بين كبرى مفارقات أدب السجون أنه كتابة استثنائية تمنح الكاتب/الشاهد حقّ ترقية تجربة الاعتقال الشخصية إلى مصافّ التجربة الوطنية، أو الكونية الإنسانية، التي لم تعد سردية فردية بل تحوّلت إلى حكاية قياسية.
وفي جانب آخر شديد الأهمية من خصائص «العريس» أنّ الوديع استقرّ على السخرية السوداء، أيّاً كانت مرارة الموقف وقسوة التفصيل وعنف الممارسة وبربرية امتهان الجسد. وحين يصف مشكلة وجود مرحاضين فقط لمائة شخص، وكيف يتولى تنظيم الدخول رجل يُلقّب بـ «الحاج»، يتساءل المواطن محمد: «قلت في نفسي: يا الله! كيف يكلّفون حاجاً بمثل هذه الأمور النجسة؟ ألم يجدوا مهمة يوكلونها إلى شيوخ وقورين غير الوقوف على أبواب المراحيض ينظمون استعمالها بين الناس بالقسطاس»؟ وفي ختام الفصل ذاته يقول: «وأخطر من ذلك، فقد سبح خيالي وبدأت أتصوّر مدينة فاضلة يعمّها الرخاء والأخوّة، وتُشيّد بها مراحيض عمومية فاخرة رومية وتقليدية حسب رغبة المرء أينما حلّ هذا المرء وارتحل»! وهذه النبرة التهكمية (التي يطلق عليها الوديع صفة «ضحك كالبكاء») تقول ببساطة إنّ الضحك خيار تنتهجه الذات الإنسانية عن سابق وعي وتصميم، في مواجهة التعذيب والتنكيل والإمتهان وسواها من خيارات السلطة المستبدة في قهر تلك الذات وتدمير إنسانيتها، و... في منعها من الضحك على سبيل المثال
.
العريس شهادة ضدّ «مسرحية عنوانها النسيان» كما يقول الوديع في رسالته إلى جلاّد «درب مولاي الشريف»، وكما يمكن للمرء أن يتخيّل ما سيقوله عماد شيحا، صاحب روايتَيْ "موت مشتهى" و"غبار الطلع" الذي قضى نصف عمره في المعتقل، إذا التقى بأيّ من جلاّدي سجون تدمر وصيدنايا وكفر سوسة... المعتقل
العربي، في نهاية المطاف، واحد متماثل متّصل: من البحر إلى الخليج إلى المحيط!
-----------------------------------------------
وسوي الروم....
.
الياس خوري
نحن ادري وقد حللنا بنجدٍ
أطويل طريقنا أم يطولُ
وسوي الروم خلف ظهرك رومٌ
فعلي أي جانبيك تميلُ
وجدت نفسي طوال اليوم وأنا اردد هذين البيتين للمتنبي، كأن الشعر يعطي فسحة فريدة للتأمل، والخروج من الأسى. انه العبث المطلق الذي يعزّي، ويطلق الروح في متاهات تأويل الكون، وإعادة ترتيبه، عبر إعطائه مدي يتجاوز المعني.
كأن هذا الشاعر الذي أحاطت به كراهية معاصريه من كل جانب استطاع، بحدس اللغة التي اندغمت بموسيقي الكلمات، أن يصل إلي المعجز، دافعا المعري إلي كتابة معجز احمد ، في سياق الصراع الكبير بين الشعر والدين، علي إمارة الكلمات وإمارة اللغة
.
جاءني المتنبي في لحظة الأسى، أخذني إلي سحر الحب، ولعبة الجوي في مطلع قصيدته:
ما لنا كلنا جوٍ يا رسولُ
أنا اهوي وقلبك المتبولُ
كلّما عاد من بعثتُ إليها
غار مني وخان فيما تقولُ
ثم انعطف بي إلي عبثية الحياة وعدم ديمومتها وتغير أحوالها، حيث كل شيء معرض للزوال، لأن الحياة ابنة الموت، ووجهه الآخر:
زودينا من حسن وجهك ما دامَ
فحسنُ الوجوهِ حالٌ تحولُوصلينا نصلك في هذه الدنيا
فإن المقامَ فيها قليلُ
لكنني في الحال التي لا تحول، وتساءلت لماذا لا تتغير حال هذه البلاد المنكوبة بحروب الفرنجة والمغول، والتي صارت اليوم أسيرة العته الذي احتل كلام العقل، لأن العقلاء خرجوا من ساحة المعركة، أو اجبروا علي الخروج منها، تاركين البلاد للعماء والخوف، بحيث صار الفتي العربي، غريب الوجه واليد واللسان .
طريق طويل أم يطول؟ كأن لا نهاية لهذا المدى الدموي الذي يغرق فلسطين والعراق ولبنان. طريق من الألم الذي تصنعه خيانة الكلمات وانتقام السماء من الأرض، ورغبة جامحة في الانتحار. هل أعادت الغزوة الصهيونية بلاد العرب إلي شجون المتاهة التي لا مخرج منها. ثم جاء النفط ومشيخاته ليعلن موت الثقافة في سياق انتحار اجتماعي لا سابق له في تاريخ الأمم المهزومة؟
لست ادري، لكنني عاجز عن تصديق عيوني، اهكذا تنتهي الثورات؟ هل من اجل أن نصل إلي ما وصلنا إليه اليوم، ذهبنا إلي الثورة مؤمنين بأن موتنا يصنع الحياة الجديدة؟ هل قاتلنا وقتلنا من اجل أن يأخذنا فاسد إلي الهوان، أو يستولي معتوه علي القضية؟
انفجار الشاعرية الفذة التي لا تتكرر بحسب ابن الأثير، الذي اعتبر المتنبي خاتم الشعراء، كان انتقاما مبكرا من الهوان. يسحرنا إيقاع البحر الخفيف في هذه القصيدة، لأنه يأخذنا إلي سحر الموسيقي في مواجهة عبث الموت، وجنون اللامعني.
صحيح أن المتنبي مدح في هذه القصيدة سيف الدولة، وكعادته كان يتماهي مع الأمير الحمداني، جاعلا الكلمة اقوي من السيف، لكنه هنا كان يعلم أن المدح لن يقوده إلي مكان. سئم الشاعر من عجز الشعر عن أن يتحول سلطة، واكتفي بنبوءة الشعر التي تصل بصاحبها إلي الموت، لذا تصير حلب مكانا لا يمكن الوصول إليه، ويصير الطريق طويلا لأنه يطول، ويصير سبيل الشاعر بلا أمل.
0
كلما رحبت بنا الروضُ قلنا حلبٌ قصدنا وأنت السبيلُ
صارت القصيدة باباً للتأمل في الزمن، فالشاعر الذي كان أول من تنبأ شعرا، وجد نفسه محاصرا بحرب لا نهاية لها، ووجد سيفه في مواجهة الروم وسواهم، فلم يعد يدري إلي أي جانبيه يميل، صار وسط الحراب التي تتوالي، ولم يعد يجد سوي طريق لا نهاية لها.
.
أتساءل هل يحق لي أن اجعل من هذه القصيدة بابا يعبّر عن الأسى الذي يلف روحي، وأنا أري أيضا كيف يحاصرني الروم من كل جانب، فلا أجد لنفسي مكاناً، وسط أمكنة بلادي التي يحتلها الموت؟
الأدب صنع من اجل هذه اللحظة. ما يميز النص الأدبي عن أي نص آخر هو قدرته علي خلع زمنه ومؤلفه. يشعر القارئ انه لا يقرأ كي يفهم، بل يقرأ كي يعبّر عن دخيلته، ويعبر بالكلمات إلي ذاته، ويستجمع روحه.
.
وحين يخلع النص مؤلفه، فإنه يصير لباسا لمن يريد، جاعلا من الذاكرة الأدبية مدخلا للاكتشاف وليس التذكر.
استطاع المتنبي أن يصل إلي هذه المرتبة لا لأنه مدح أو هجا أو افتخر، ولا بسبب قدرته علي التلاعب بأوزان الشعر وقوافيه، بل لأنه عرف كيف يمزج الموسيقي بالمعني كي يعلن احتجاجه علي لا معني الحياة ووحشية التاريخ وعبثيته.
.
هذا الامتزاج جعل من الشعر ديوان العرب، وهذا ما يستحق الدراسة، حين نستعيد المتنبي، ونعيد قراءته.
اقرأ القصيدة، ولا أجد ما هو أكثر قدرة علي أن يعبر عن أرواحنا المضطربة غير بيت من الشعر قيل منذ أكثر من عشرة قرون:
وسوي الروم خلف ظهرك روم ٌ
فعلي أي جانبيك تميلُ
0
- القدس العربي
------------------------------------------------
عن الوطنيةِ والخيانة: وهيب أيوب
2007/07/02
عندما يسمع أيٌ منّا كلمة خيانة يتوارد إلى ذهنه مباشرة، أن الأمر يتعلّق باتصال شخص ما وارتباطه إما بالموساد الإسرائيلي أو الـCIA الأمريكي، وربما صُعق بعض السُذّج عندما قرءوا عنوان كتاب الماغوط الراحل "سأخون وطني" وظنّوا أنهم أمام دراما من الاعترافات للماغوط عن مغامراته مع إحدى وكالات الاستخبارات الأجنبية.
لا شك أن لمفهوم الخيانة صوراً وأشكالاً مُختلفةً يُعَبِّرُ عنها كلٌ منا بما يتفق ونوع الخيانة التي تعرّض لها. فهناك خيانة الصديق وخيانة الحبيب وما إلى ذلك...
وأما خيانة الوطن فيكاد الموروث الثقافي، عند العرب وخاصة العامة منهم، يحصرها بالتعامل الاستخباراتي مع جهة أجنبية أو عدوّة. على الرغم من أن لخيانة الوطن والوطنية أشكال ومناهج متنوعة ومتعددة، يسلكها على الأغلب أولئك المثقفون الذين يعون جهل العامة بمفهوم الخيانة الحقيقي، خاصةً خيانة المُثقف لوطنه وشعبه من خلال خيانته لدوره الحقيقي المناط به والمسؤولية الملقاة على عاتقه كونه- كما يُفْتَرَض- الأكثر وعياً والأوسع إدراكاً لما يحيق بأمته وشعبه من مظالم وانتهاكات سواءً من الخارج أو الداخل.
فيكفي عند البعض- وهُم الغالبية- أن تَشتم إسرائيل وأمريكا، وتُغني "بَحِبِ عمرو موسى وبَكْرَه إسرائيل" وتُحَييّ المقاومة والكفاح المُسلّح، وتُنادي بشعارات كتحرير فلسطين والجولان والعراق، وبعدها ارتكب ما شئت من الفساد والموبقات والخيانات، بشتّى أشكالها، فأنت مُحصّنٌ من النظام والجَهلَة والغوغاء.
في وطننا العزيز سوريا، باتت خيانة المبادئ والأفكار والقيم الإنسانية المُستبدلة بالانتهازية والوصولية و"الدعارة" السياسية، باتت تُسمّى "حربقة" و"بندقة" و"شطارة"، وأصحابها يعلمون تماماً "من أين تؤكل الكتف".
أثناء كرنفال المُبايعة في سوريا مؤخراً، اتصل بي أحد الأصدقاء وقال: شاهد الفضائية السورية، فلم أُكذِّب خبراً... لقاء مع صباح فخري ودريد لحّام، والمناسبة طبعاً مُبايعة الرئيس القائد، وعلى هامش اللقاء، طلبَتْ مُقدِمة البرنامج من صباح فخري ودريد لحّام، أن يُغني كلٌ منهما أغنية بهذه المناسبة، فأخذت أغرق في مقعدي وأتصبب عرقاً لمَ شعرته من إحراجٍ لفنانين كبيرين مثلهما؛ يُطلب منهما وبطريقة مُهينة ومُبتذلة، وكأنهما وَلَدين مُجتهدين مُهذبين ومُطيعين، الغناء أو الرقص في هكذا مُناسبة؟! دُهِشت من تقَبُّل الأمر على النحو الذي فاجأني به صاحب القدِّ والقدود الحلبية، الفنان صباح فخري إذ أجاب: إن أجمل الكلام وأجمل الألحان وأجمل الغناء هو: نعم نعم لقائد هذا الوطن بشّار...
وتعلمون أن دريد لحّام لا يترك أحداً يزايد عليه في هكذا أمور هامة ومصيرية، فغنّى وأطرب؛ وزاد في الكلام وبالغ حتى تخطى زميله بمسافات. وفي يوم آخر من ذات الكرنفال، شاهدت من أسّمَوها أديبة، وهي الكاتبة كوليت خوري، فكيف باعت وبايعت السيدة كوليت؟... صُعقت وهي تقول: صحيح أن الوطن غالي، لكن قائد هذا الوطن أغلى...
اتصلت بصديقي بعد انتهاء اللقاء، فثرتُ عليه وشتمته هو والمُثقفين والفنانين والكُتّاب بأقذع الكلام ولمتُهُ على هذه "الاستفقادة" التي خصّني بها بمهاتفتي، وقلت له، سوف أعتبرك مدسوساً لو اتصلت بي مرّة أُخرى...
الجولان المحتل – مجدل شمس
"الرأي – خاص"
--------------------------------------------------------------
الحركة الكردية في سورية في عامها الخمسين
إسماعيل عمر الحياة - 03/07/07//
في خمسينات القرن الماضي كانت سورية حديثة الاستقلال، تواجه تحديات جديدة، وكانت التجربة الديموقراطية الوليدة فيها تقف أمام امتحان صعب، بسبب الانقلابات العسكرية المتتالية وبروز الفكر الشوفيني وانتعاشه بين صفوف بعض الأحزاب القومية، وتحركه باتجاه تهديد الشراكة الوطنية التي صنعَت الجلاء، والتنكر للعهد الوطني الذي كتب بدماء الشهداء وجهود المناضلين السوريين من مختلف المكونات، عرباً و كرداً وأقليات قومية. ففي حين سعى الجانب الكردي لتعزيز وحدة هذا الوطن، مقابل الحفاظ على مقوماته القومية التي كان يجب احترامها من الطرف الآخر الذي تصرف تحت ضغط ذلك الفكر الشوفيني بمنطق الأكثرية، ومارس الشطب على كل ما هو غير عربي بهدف صهر القوميات الأخرى، تنامت مع الزمن النزعة الإقصائية في محاولة لتحويل سورية إلى بلد العنصر الواحد واللون الواحد ثم إلى بلد الحزب الواحد فيما بعد، مما ألحق الضرر بمفهوم المواطنة، وخلق ظروفاً استوجبت معها ضرورات البحث عن إمكانية صيانة الذات القومية. هكذا كان الإعلان عن قيام أول تنظيم سياسي كردي في 14 حزيران (يونيو) 1957 تعبيراً عن إرادة الشعب الكردي في التصدي لمحاولات شطب وجوده والتنكر لتاريخه النضالي، والإقرار بدوره وحقوقه القومية وإصراره على التمسك بالشراكة والتآخي العربي الكردي القائم على أن سورية كانت، ويجب أن تظلّ، وطناً للجميع بعيداً عن التميز والاستئثار والإقصاء. وبسبب طبيعة تلك الولادة السياسية وضروراتها، فقد استقبل التنظيم الجديد بحماس وتعاطف كبيرين في الوسط الكردي، لكنه قوبل من جانب السلطة الحاكمة بالمزيد من القمع اعتباراً من 1958 في عهد حكومة الوحدة التي أقدمت، في إطار قرارها المتعلق بحظر نشاط جميع الأحزاب السياسية، على اعتقال وملاحقة المئات من الكوادر الحزبية، مما تسبب بانحسار نشاط الحزب الديموقراطي الكردي ولجوئه للعمل السري، وما ترتب على ذلك من تأثيرات سلبية على الحياة الداخلية للحزب وعلى التعامل الديموقراطي بين هيئاته، حيث تضافر غياب الشفافية وضراوة القمع السلطوي واستمرار الملاحقات، مع تبعات التخلف الفكري والسياسي الذي عانى منه المجتمع الكردي، وكذلك التدخلات الخارجية، عاملة جميعاً على تفتيت الحركة الكردية اعتباراً من عام 1965 إلى تنظيمات عديدة، لا يبرر عددها الكبير أي منطق سياسي أو تباين اجتماعي أو اختلاف فكري. كذلك ساهمت تلك العوامل في فرض العزلة على الحركة الكردية و إبعادها عن الشأن الوطني العام وانغلاقها على وسطها وابتعادها عن الحراك الديموقراطي العام لفترة طويلة من الزمن، نتيجة للسياسة القمعية للسلطة ومحاولاتها الرامية للتشكيك بالولاء الوطني الكردي وربط أي تحرك أو نشاط مطلبي بإيعاز خارجي. ونتيجة لما تقدم فإن المعارضة الديموقراطية التي أُنهكت أصلاً بالأحكام العرفية والملاحقات التي طالت كوادرها على الدوام في ظل حالة الطوارئ القائمة منذ 1963، لم تستطع غالبية أطرافها حتى عهد قريب، وعلى رغم معاناتها، أن تتفهم الجوهر الوطني الديموقراطي لطبيعة القضية الكردية، وظل العديد منها يتعامل مع هذه القضية بالتشكيك والتردد، مما انعكس سلباً على أداء الحركة الكردية في بعض جوانب سياستها. فبين هذا وذاك، بين سياسة الاضطهاد المنتهَجة رسمياً وسياسة التجاهل الممارسة سابقاً من قبل المعارضة، مروراً بغياب البديل الديموقراطي لحل القضية الكردية، تنامت الأفكار الانعزالية في المجتمع الكردي في إطار ردود الأفعال. هكذا ازدادت حالة اليأس والارتباك التي أضعفت دور الحركة الكردية في قيادة هذا المجتمع وتحصينه، مؤثرة سلباً على سياستها الموضوعية وجهودها الرامية إلى كسب تأييد النخب الثقافية والسياسية العربية المتفهمة لعدالة القضية الكردية في سورية وتقديم الذرائع للسياسة الشوفينيّة لتعميق سياسة الاضطهاد. وكان مما نتج عن ذلك عرقلة تطور المجتمع الكردي، اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، كما ظهرت بين أوساطه حالة من الإحباط وحدث خلل في سيكولوجية الإنسان الكردي نتيجة عدم التوازن بين واجباته التي تصدى لها دائماً وحقوقه التي حرم منها على الدوام، إضافة إلى إخضاعه لجملة من المشاريع العنصرية والقوانين الاستثنائية، التي لا يستطيع مشرّعو سياسة التمييز الدفاع عنها والتي تعبر عن حالة شاذة في تعامل الأنظمة مع مواطنيها كاستمرار العمل بنتائج إحصاء عام 1962، والحزام العربي، ومحاربة الثقافة الكردية، وسياسة التعريب.
وفي الحالتين اللتين ساهمت سياسة القمع في تفاقمهما: حالة التشتت داخل الحركة الكردية والتي وصلت إلى حدود غير مقبولة، وحالة الابتعاد عن الحركة الديموقراطية السورية أو إبعادها، تسعى الحركة الكردية، منذ سنوات، من خلال إيمانها بأن قضيتها قضية وطنية بامتياز، وأن مهامها جسيمة ولا يمكن مواجهتها إلا بحشد كل الإمكانات التي لا يمكن توفيرها إلا من خلال توحيد الصف الكردي والصف الوطني السوري، للبحث عن مرجعية كردية تمتلك حق القرار والتمثيل والتعبير عن إرادة الشعب الكردي، وتحديد أهدافه المتلائمة مع التشخيص الدقيق والصحيح للواقع، والانطلاق منه لبناء مستقبل واعد، بعيداً عن شبح الاضطهاد. وهذا ما اكتسب إلحاحاً خاصاً بعد أن ازدادت الحاجة لهذه المرجعية بفعل التطورات السريعة التي تداهم الساحة السياسية والمفاجآت التي قد يحملها المستقبل، حيث تعج منطقة الشرق الأوسط، التي تقف عند أعتاب مرحلة جديدة، بأحداث متلاطمة تعني الشعب الكردي في سورية وحركته الوطنية، مما يستوجب الارتفاع إلى مستوى المسؤولية والترفع عن المهاترات التي لا تزال تبرز بين حين وآخر، وإجراء حوارات بناءة. وهي قد بدأت الآن بصياغة رؤية سياسية مشتركة لحل القضية الكردية، يراد منها أن تكون إحدى وثائق المؤتمر الوطني الكردي المنشود الذي بات عقده مطلباً شعبياً بهدف توحيد الخطاب الكردي أولاً، وثانياً، اختيار مرجعية سياسية كردية لإرساء مرتكزات التمثيل الكردي الواحد. وتساهم الآن ثلاثة إطارات هي(التحالف-الجبهة-التنسيق) في صياغة تلك الرؤية التي تلتقي عند أهداف وشعارات مبدئية تتقاطع مع ما جاء في وثيقة «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي»، الذي أقر بضرورة «إيجاد حل ديموقراطي عادل للقضية الكردية في إطار وحدة البلاد...»، وذلك انطلاقاً من حقيقة أن أي شعار لا يستمد عدالته فقط من مشروعيته ومن حقائقه التاريخية، بل تتداخل في إقراره كذلك طبيعة المرحلة وإمكانات التطبيق وحسابات الربح والخسارة في القاموس السياسي.
ومن هنا فإن الشعار المذكور جمع حالياً بين مبدأ تمكين الشعب الكردي من ممارسة حقوقه القومية، وبين قدرة حركته على إقناع الرأي العام الوطني السوري للتضامن مع تلك الحقوق والعمل من أجل تأمينها. كما أن الالتقاء القومي الكردي والوطني السوري معاً عند هذا الشعار الذي يجسد التطلعات الكردية، يبرز محدودية هامش التباين السياسي بين مختلف الأطراف الكردية التي قد تختلف في التشخيص وفي أشكال النضال الديموقراطي السلمي التي يقرها الجميع، لكنها تتفق على الثوابت الأساسية للعمل الوطني الكردي.
ثم ان التوافق الوطني الكردي على رؤية سياسية مشتركة بهذا الشكل يرفد النضال الديموقراطي العام الساعي للتغيير الوطني الديموقراطي الذي يأتي «إعلان دمشق» في مقدمة وسائله النضالية، والذي يقر بضرورة إدراج القضية الكردية بين القضايا الوطنية العامة التي تتطلب حلولاً عادلة وعاجلة. لكن هذه مهمة تحويل القضية الكردية قضيةً لكل وطني سوري لن يُكتب لها النجاح ما لم تنجح الحركة الكردية في تعريف الرأي العام السوري بعدالة تلك القضية من جهة، والانخراط، في المقابل، في النضال الديموقراطي العام للمشاركة في إيجاد الحلول للقضايا للوطنية الأخرى، وذلك تطبيقاً لشروط ومقومات الشراكة الوطنية التي تتطلب مشاركة الكرد في مختلف المؤسسات المركزية والدستورية وتمكينهم من التمتع بحقوقهم القومية المشروعة في إطار وحدة البلاد وإقامة نظام ديموقراطي يؤمن بالتعددية السياسية والقومية ويقر بتداول سلمي للسلطة ويضع دستوراً جديداً للبلاد يعترف بوجود الشعب الكردي.
أخيراً وبعد مرور خمسين عاماً على إعلان أول تنظيم سياسي كردي، فإن البشرية وخلال نصف قرن - هو عمر الحركة الكردية في سورية - شهدت تطورات كبيرة على مختلف الصعد الإعلامية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وساهمت في إحداث تغيرات هامة و متسارعة، شملت مختلف أرجاء العالم التي باتت تتبادل التأثير والتأثر. وفي إطار تلك التطورات فإن سورية لا تقع خارج الكرة الأرضية التي يلفها التغيير. فهي كغيرها من دول العالم سوف تجد ما يجب تغييره من ممارسات وسياسات عفى عليها الزمن، ومنها بالتأكيد قضية حقوق الشعب الكردي الذي لم تعد مسألة اضطهاده وحرمانه شأناً خاصاً. فالقوى الوطنية السورية الغيورة على مصلحة هذا البلد باتت تدرك جيداً أن سياسة الإنكار المتعمد لوجود شعب يتجاوز تعداده 2.5 مليون نسمة (حوالى 15 في المئة من مجموع السكان) ويستمد جذوره من قدم التاريخ، لا تستطيع الصمود في مواجهة الحقائق التاريخية وسمات عصر التغيير وانتصار حقوق الإنسان في العالم، وأن الوطن الذي يريدون له التقدم والبناء والصمود في وجه الأخطار الخارجية والتحديات الداخلية، يجب أن يكون للجميع حتى يكون الجميع للوطن. أما المواطن الكردي، الذي كان وسيظل كردياً بقدر ما هو سوري، فلن يكون يوماً معرّباً ومجرداً من خصوصيته القومية التي لا ينتقص التمسك بها من كرامة أحد، ولا يسيء ذلك لمصلحة الوطن، بل بالعكس تماماً: فإنه يضيف لوناً جديداً إلى ألوان الطيف الوطني ويزيد من جمال لوحة سورية ويغني الثقافة الوطنية. وفي الوقت الذي يجب أن يكون فيه كل السوريين، بكافة انتماءاتهم، متساوين أمام القانون، آن الأوان لطي الصفحة السوداء التي يتساوى فيها الأكراد فقط أمام القوانين الاستثنائية، ويتم تعريب أسماء الولادات والمعالم الطبيعية والبشرية في المناطق الكردية. فالتجربة التاريخية للشعوب أثبتت أن مشاريع الصهر القومي لن يكتب لها النجاح، وتغيير المعالم القومية لأي شعب سيكون مصيره الفشل. فالاسم الكردي لقرية، مثلاً، لن يمحى من ذاكرة سكانها مهما بلغت قوة المعرّبين لأنه يرتبط بملاعب الطفولة وبالوجدان والتاريخ.
رئيس حزب الوحدة الديموقراطي الكردي في سورية (يكيتي