Montag, 25. Juni 2007

الرحيل إلى المجهول: الوقت

الرحيل إلى المجهول: الوقت
بقلم: آرام كربيت *
– 25 حزيران/ يونيو 2007
عروه من ثيابه وربطوه بالسلاسل على القضبان الحديدية المحلزنة.
مصلوب اليدين والقدمين.. رأسه مدلى بمرارة.
يئن ويبكي من الوجع والخجل والحزن.. يشهق من القهر.. يردد كلمة واحدة..
استغفر الله.. استغفر الله.
كان مسلوب الارادة والروح ككل المقهورين.
عيناه غائرتان.. غائبتان في اللأمدى.. البؤبؤ في طرف والحدقة في طرف أخر.
عندما تنظر إليه تحس إنه في عالم أخر.. غائب عن المكان والزمان وفعل الوقت.
تركوه معلقاً ساعات طويلة على مسافة متوازية ومتساوية ما بيننا وبينهم.
مكسور النفس.. ذليلاً مهاناً مهزوماً.. يصرخ بلسان مبحوح..
استغفر الله.. استغفر الله.
إلى أن بح صوته تماماً.
لم يبق على جسده إلا جلده.
عارياً تماماً.
كان الخريف صديقاً يعوي في الممر الطويل يلسع كل من يساكنه أو يقترب منه.
لم يكن نور الدين خليل يعرف معنى التوسل أو الحلم أو الزمن الآخر المختلف.. الزمن الجميل الذي يلون قدره الملفوف بالأضواء.. القدر الذي يغريه بالارتحال إلى مواضع الرغبات المتقدة.
كان رجلاً عاجزاً فقد القدرة على الحلم والتأمل.. يأتيه صدى أو صوت مرتبك ملفوفاً في كفن أبيض أو أسود مدججاً بالمتاريس مصاغاً على شكل رعب مركب.. يقترب منه يهجس في أذنه وذاكرته القديمة، يدخل في لبه على شكل إغراءات ملفوفة بقماش مطرز حريري اللون، يوقظه من نومه يدفعه مسافات بعيدة إلى الأمام أو الخلف، غارقاً في الدندنة التي تهزه وتفقده توازنه. يقوم من فراشه ملفوفاً بغطاء النوم.. يسير خلسة والصقيع الحامضي فوق كتفيه.. يضرب أقرب واحد إليه لا فرق بين هذا وذاك. يسير دون إرادة منه على هدى إيقاع صوت الميت الساكن بين خلاسات عقله.
في الليل عندما نخلد للنوم يأتيه هذا الصوت القوي يوقظه من مضجعه يحثه على الفعل.
كان نور الدين رجلاً مريضاً.
كان الخريف يسكن بيننا.. يسكن أحلامنا.. يسير بين ممرات أوجاعنا وخيبات زمننا.
لم يكن يسمحوا لنا الاقتراب منه.
فكوا وثاقه ثم دفعوه أمامهم بقوة في ممر الجناح.. الأكبال تلسع كل مكان من جسده العاري.. صوته المبحوح والموجوع يقطع نياط القلب.. كانوا يضربونه بالكرابيج والكيبلات المحلزنة دون رأفة أو شفقة.. يصرخون عليه أن يركض أو يركع أو يستلقي على الارض.. يبصقون عليه.. يشتمونه ويركلونه بعقب أحذيتهم القوية. كنا داخل المهاجع عندما قالوا لنا:
ابصقوا عليه.. اشتموه!
كان جسده القوي ممتلئاً بالكدمات المزرقة والدماء تسيل من ممراته العارية.
يعود ويصيح.. يقول كلمة واحدة..
استغفر الله.. استغفر الله.
نور الدين خليل فاقد القدرة على التوازن.. كان مختلاً عقلياً.. منذ لحظة دخوله السجن وهو يعاني من مشاكل داخلية.. من اضطرابات عقلية.. ربما مصاباً بالانفصام أو الشيزوفرينا.
وجه نور الدين وعيناه المتعبتان الغائبتان ما زالتا تدقان في عيني.. انهزامهما مرسوماً كأحجية سوداء أمام نظري. شكله لا يبرح ذاكرتي رغم المرارة التي سببها لنا.. ورغم مرور السنين الطويلة.
السلطة السياسية في بلادنا.. بدلاً من أن تأخذه إلى المشفى وتعالجه.. اختصرت الطريق وأخذت السكة السريعة.. سارعت إلى تمزيقه من الداخل عبر ضربه وتعذيبه يومياً.
لقد تكلم الكثير من السجناء مع الأمن السياسي عن وضعه منهم المرحوم رضا حداد.. نقولا الزهر.. أحمد فايز الفواز وعبد المجيد منجونة قالوا:
نور الدين خليل مريض ويحتاج إلى علاج طويل في المشفى. لكن بعد معاناة طويلة عاشها في سجن عدرا والآلام التي سببها لنا مدة عام كامل نقلوه إلى سجن تدمر حيث مكث هناك في ذلك المكان الصعب أثنتا عشرة عاماً قاس معها السجناء الذين معه الولايات والعذاب والتعب.
كنت في المهجع الثاني عشر عندما جاؤوا بنور الدين خليل إلى السجن.
المهجع خليط متنوع من قوى وأحزاب سياسية:
الحزب الشيوعي /المكتب السياسي/، حزب العمل الشيوعي، الأخوان المسلمين، حزب البعث العربي الاشتراكي/ العراق/، أطفال أحداث الشغب بالإضافة إلى جرائم الحق العام كالتهريب وخطف الاطفال والسرقة وتزوير العملة وجواز السفر والجرائم اقتصادية.. محاولات القتل، مخبرين حقيقيين ومزيفين وإلى أخره.
كانت الكوابيس الليلية والامراض المستعصية جزء من سيمفونية المكان تتراقص مع عقارب الزمن وبندول الوقت المتأرجح في مكانه.. يتحرك ببطء شديد يحمل أيامنا وليالينا على أكتافه في جو مشحون بالآمال الراكدة والأحلام المؤجلة.. يدفعها لتبقى مترسبة في قلوبنا في الليالي الشتائية المتكلسة والباردة.
كثير من اللصوص كانوا يتفاخرون بأنهم من عينة أخرى.. لصوص.
عندما كنا نسأل أحدهم: ما هي تهمتك. كان يرفع رأسه إلى الأعلى ويرد بفخر واعتزاز:
حرامي.. نعم.. أنا حرامي! رشوة أو اختلاس. ثم يردف بنبرة مملوءة بالثقة:
الحمد لله إنني حرامي.
الحمد لله لست سياسياً حتى لا أمضي بقية عمري بين جدران السجن.
في خريف عام 1988 القت السلطة القبض على ثلاثون رجلاً من الجمارك بتهمة الرشوة والاختلاس.. كانوا يتفاخرون عند الكلام:
مشكلتنا بسيطة.. رشوة واختلاس.. بضعة أيام ونخرج! إننا مدعومون.. جهات عليا في السلطة تتابع وضعنا وتساعدنا. قريباً سيتم الافراج عنا. يتنحون جانباً.. يتكتلون على بعضهم.. يمشون مع بعضهم مخافة الاقتراب منا حتى لا يتهموا بتهمة سياسية.
استطاع حافظ الاسد خلال حكمه لبلادنا أن يغير المعايير الاخلاقية فيها لدرجة صارت السرقة والرشوة والكذب موضع تباهي.. فخر واعتزاز!
كان أحدهم.. أحد اللصوص يتكلم في نومه طوال الليل.. كبير الجسد واللشة. لقد تكرم عليه أحد السجناء السياسيين وأعطاه سريره في الطابق الثاني. كان يقول وهو نائم:
صف.. صف.. صف السيارة على اليمين.. لا تدعه يهرب منك.. خذ منه.. لا تتركه يمشي بأقل من خمسمائة ليرة سورية.. يقصد الرشوة. طوال الليل كان يشخر ويتحدث في نومه عن المال والنقود.. خذ وهات.
في إحدى المرات بينما كان يتكلم في نومه.. يحرك يديه ورجليه ورأسه ودون شعور منه وقع من الأعلى إلى الاسفل. خلال لحظات قليلة قام على قدميه كالديك رغم ان وزنه كان يقارب المئة وعشرين كيلو غرام.
كان الشتاء لا يخلوا من الشيطنة والانفعال.. يتسلل بهدوء.. يقفز إلى يدي وقلبي ويهوى على جسدي بكامل زينته فيغير ملامحي القادمة. يدخل من الشبابيك العارية والعالية.. يحمل الخيبات المدفونة بين ثناياه.
نعيش وهم الزمن القادم.
والتبرعمات الملونة..
نرحل إلى البعيد.. على مراكب دافئة.. إلى مدن مرسومة بقناديل خافتة.
نفرش أحلامنا على الشظآن والصدف البيضاء..
نشرب أنخاب الفرح الراحل في قواقع مكسرة.
كثيرة هي المرات التي استيقظ في الساعة الخامسة صباحاً.
هدأة الليل تتدلى كالخدر.. كالبراعم المركونة في جوف الحياة.. تسترخي بتثاقل إلى أن تنحسر وتستسلم وتسلم روحها إلى الشفق القرمزي البارد.
أجد صديقي نبيل جولاق يقرأ أو يكتب ما تجود عليه ذاكرته من أحلام أو أوهام وردية. ينادي علي بوشوشة عاجزة وحركات ايمائية يتيمة تسبقه يديه واصابعه التي تتحركة بالإشارات والإيماءات القريبة من الترجي. أذهب إليه لأجد كأس المتة بيده يهديني واحدة من أجل أن أجلس معه وأشرب.
قبل أن يطلع الضوء من خدره البارد.
قبل أن ترتوي الكائنات النائمة بماء الحياة.
يسهو نبيل ويفيض.
يقرأ القصائد الغاصة بدروب الورد ورحيق الفرح.. يتكلم عن عشق لم يعشه عن حب خائب.. عن ذاكرة مثقوبة ومتناثرة على الطرقات.. ذاكرة منخورة. يقول لي:
هل عشقت. كنت أجيبه:
ربما!
فالعشق متأصلاً في الدم والعروق والشرايين.
قلبي يتكوّن من ذاكرة متعبة.. من السنين المرمية بين الجدران.
كلانا كان يهجس برائحة المرأة وعطرها الوردي الدامع.
يعود بي إلى الماضي.. إلى ينابيع رأس العين عندما كنت أمسك الشمس بيد ودمي العجوز المهروس باليد الاخرى. عارياً تماماً. حاملاً ثيابي بيدي المزركشة.. أركض من مكان لأخر.. أراقب ذرات الرمال البيضاء الحنونة كيف تداعب الماء الزلال.. كيف تخرج من جوف الارض برقة ونعومة وعلى الزوايا والقلب الاسماك العاشقة تلهو مع لغة الصانع البديع.. لغة الكون الجميل.
كان نبيل يقرأ لي الأشعار عن حبيبة ما.. امرأة ما.. لها نعومة السماء والطبيعة ورائحة الاشجار المتجذرة في التراب.. يتأوه من الصمت البعيد عندما يلقي قصائده المجنونة عن امرأة.. عن امرأة ذات لون.. ذات شعر متناثر فوق الاصداغ.. امرأة القت تحيتها العبرة عليه وهو في معبر الحياة.. تحية غامزة وربما هامزة وربما ساخرة وربما مابين الثلاثة يسكنها نسغ جف ونائم.. وربما تلفها البراءة والحياء.. لكنها كانت تعني الكثير لشاب في ربيع العمر.. في أوقات فيضان الروح والجسد.
كان نبتة خضراء طافحة بالاندفاع.
ولد على صدر الحياة من أجل أن يبقى.. ويعشق.
يمص كأس المتة شفة وراء شفة.. يقرأ ويغيب.. يتخيل النداء القادم إليه في صحوه ومنامه.. نداء مرمري اللون ضارب إلى لون الضياء والماء.. نداء يتلبسه كما يتلبس كل الكائنات في لحظة توحدها بهذا الهياج الغامض.. في لهفة البقاء على صدر الحياة وديمومتها. يدخن ومع كل مجة يتابع قراءة ما تجود عليه كلماته.. بضعة أبيات حنونات عن امرأة بعيدة.. عن ملائكة تلبس النور الابيض البهي في لحظة اشراق بديع. يتكلم ويرسم شكل الجمر الاحمر المتوهج الذي يزداد لمعاناً في كل نبض من دفق القلب.. يغيب في البحث عن أزاهير تنمو على ضفاف الانهار.. يسرح مع مرح البقاء في ذلك المكان الشائك.. يتجندل على قارب الشفق الحنون ويغيب في القراءة برقة وهمس حتى لا يوقظ النيام. كنت أسمع وأرحل معه.. نقطع الدروب الطويلة.. ندون بقايا أنفاسنا على ورقة الانتظار الطويل كبراعم تهفو وتنمو برقة وهدوء. ثم نذهب في حديث بعيد.. نحكي عن آخر الأخبار ونتكلم في السياسية.. نختلف في مكان ونتفق في مكان آخر ثم نضع السماعات على أذاننا لنسمع أغنية لفيروز او نجاة أو غيرهما إلى أن يطل الصباح بحركته الرتيبة والمتعبة.
كان الماضي جزء من لعبتي في تقطيع الوقت وقتله.. أهجس به في سراري الروح.. أذهب إليه وأقبله.. أكتب على محرابه شوقي واحتراقي.. أتغنى به وأرقص عند بابه مواويلي الحزينة والمفرحة.. وكان نبيل صديق الشفق في ذلك الأفق الحزين.. نجلس في زاوية المهجع.. نستعيد ألق ذكرياتنا الماضية ونكتب على الجدران العفنة رائحة انبعاثات الروح.. نرحل معاً إلى ضعيته في الساحل السوري الجميل.. إلى اللاذقية.. قراها.. ريفها الاخضر البهي الجميل.
كان يحن إلى الضيعة والمواويل.
وأحن لبلدي..
كل واحد يشهق بالحرقة من أجل أن يعود إلى بيته وأهله.. إلى مسقط رأسه وموطنه الأول.
كنت أقول له:
دائماً كنت أغني لبسمة للصباح.
أحدثه عن الصبايا اليافعات.. الاضحية التي كانت تقدم وترمى للنهر من أجل بقاء الخابور والبور الاخضر الجميل.
اجدادنا كانوا يقدمون القرابين.. أجمل الفتيات وأبهاهم وأكثرهن رقة ونعومة ليبقى الخابور يرقص مع نواميس الكون وإيقاعاته المتوازنة.. ليتناغم مع دبكات الوجود. من أجل أن يتمايل الزمن على خصره ويترك مجراه أمناً مطمئناً.
كانوا يسجدون للأرض والتراب الاسمر الناعم.. للماء والمطر. يكتبون الفصول المتوهجة على أوراق الشجر والرياح الساكنة بين ديار الأفق الحنون. يشعلون الشموع ويرمونها فوق الطحالب الخضراء ليتألق الماء ويخضر ورده وليله الجميل على الضفاف.
أحدثه عن خبز التنور والمواويل.
بين الفينة والأخرى نسمع شخير النائمين وبعض الكوابيس الخفيفة أو الثقيلة من هذا الجانب أو ذاك أو صرخة وجع أو آهة عميقة تصدر من صدر موجوع. نرفع أبصارنا إلى مصدر الصوت ثم نكمل هروبنا من لعنة المكان ومتاعبه.
كنت أرحل معه إلى الماضي.
عندما كنت أركب مع والدي شاحنته الشيفروليه ذات اللون الفستقي الفاتح.. رائحتها ما زالت في أنفي. كنا نسير فوق ربوع بادية الجزيرة البكر نتبضع الهواء الطلق.. رائحة النعناع البري الطافح فوق صدر الارض. أطلب من والدي أن يتوقف على جانب الطريق.. أركض وراء صغار الاغنام.. الطليان.. الخرفان المولودة للتو. يسحرني لونها الابيض الناصع.. أقترب من الجمال والماعز.. أركب على ظهر حمار الراعي وأسير مسافات طويلة مصغياً السمع لصوت الاجراس المنبعثة من رقبة الكبش الكبير قائد القطيع.
كنت مغرماً باللون الاحمر.. لون شقائق النعمان.
أقطف باقات كبيرة من الاقحوان الاصفر والابيض المتناثر على الامتداد الواسع.. استغرق في الركض بين الالوان التي كانت تأسرني وتترك صداها في قلبي.
كانت الجزيرة مليئة بالغزلان البرية والارانب والثعالب والذئاب.. أبن أوى والضباع. عندما كنا ننتقل من الحسكة إلى القامشلي وبالعكس كانت هذه الكائنات تهرب من مطرح لأخر مجتازة الطريق العام.. تركض في الفلاة الواسعة بحثاً عن الطعام والماء.. وأحياناً كثيرة تتسمر امام الضوء القوي المنبعث من مصابيح الشاحنة.. تقف في مكانها مستسلمة لقدرها الغمض.
عاشت هذه الكائنات في هذه الديار لآلاف السنين قبل أن تكثر عمليات القتل والتنكيل بها إلى أن انقرضت عن بكرة أبيها نتيجة القتل لمجرد القتل والصيد الجائر والتسميم المتعمد.
في المساء كان عبد المعين الراوي /أبو مصعب/ يضع كأس الشاي المعدلة أمامه يشرب ويسمع أم كلثوم وهي تصدح.. كان ينظر إلي ويهدهد رأسه متلمظاً بالحرقة والوجع.. متذكراً زوجته وأطفاله الصغار الذين غابوا عن عينيه سنوات طويلة.. ملتفتاً حوله حتى لا يراه أحدهم. يشرب ويدخن ويصفن طويلاً.. لكن عندما كانت تقع عينيه على عين أحمد منصور/ أبو أنس/ يتظاهر بشيء أخر.. وعندما كان يسأله ماذا تسمع يا أبو مصعب كان يقول بعد أن يرفع السماعة عن أذنه:
الأخبار.. أخبار لندن.. والله العظيم الاخبار.. يلتفت إلينا.. يغمز ويضحك في إشارة إلى هروبه من الجواب.
حتى في السجن كنا نخاف من بعضنا.. من مراقبة الاخرين لسلوكنا. لهذا كان كل فرد منا يحاول بكل الوسائل أن يخرج الكنوز النظيفة من مخابئه ويضعها أمام الآخرين حتى لا يتعرض للانتقاد والتجريح.
السجن مثل أي مكان في الحياة يخضع لشروط ومقاسات صارمة يجب ان يجيدها كل سجين وإلا تحول إلى شخص تافه.. نكرة لا وزن له.
أقول دائماً:
السجن.. ليس السجان فقط.. وليست الحيطان الرمادية المظلمة والمتعبة فقط.. ليس المكان وشروطه وظروفه.. إنما السجناء أنفسهم وما يخلقوه من متاعب وأوجاع مؤلمة لبعضهم البعض.
البعض من السجناء يتعب في أول الطريق.. منذ التحقيق والبعض الأخر يتعب في أول المشوار والأخر في منتصف الطريق وعندما يتعب أحدنا يرمي أحماله على أقرب واحد إليه.. يرميها على الاخرين ليخفف عن نفسه وطأة المكان وصعوبته.
مرات كثيرة أراقب حركة السجناء من أعلى الدرج.. كيف كانوا يمشون بسرعة كبيرة ومع الحركة العنيفة كانت الأيدي ترتفع إلى الأعلى وتنزل بسرعة مع الصوت العالي والانفعال الشديد.
كان الجناح يعج بالنشاط والحيوية والحركة في فترة الثمانييات من القرن العشرين. تتوزع الباحة الصغيرة رجال على شكل مجموعات صغيرة متناثرة على محيطها.. كل أثنان أو ثلاثة أو اربعة أو خمسة يأخذون زاوية أو مكان وفي يدهم كتاب ما سواء كان له علاقة بالتراث أو السياسة أو أي موضوع له علاقة براهنية الحياة يجري النقاش حوله والبحث في أبعاده. كان فترة نهاية الثمانينيات زاخرة بالتحولات الكبيرة على الصعيد العالمي منها وصول غورباتشوف إلى الحكم في الاتحاد السوفييتي السابق والتغييرات الكبيرة التي بدأت تطرأ على النظام العالمي مما دفع الكثير من السجناء في الدخول في نقاشات حامية سواء مع هذا الطرف أو ذاك وعلى هكذا المنوال تدور الدوائر. كان الشيوعيون والأخوان يعودون إلى التراث لينهلوا منه أسباب ما نحن عليه وكل واحد حسب وجهة نظره وبعده الايديولوجي.
كنا في زمن طائر وعالي التحليق ونحاول اللحاق به.
يتبع..
______
____
* كاتب سوري وسجين سياسي سابق
----------------------------------------

سوريا وإسرائيل بين السلام والحرب

برهان غليون
لم يحصل أن تضاربت الآراء والتحليلات بخصوص مستقبل العلاقات السورية الإسرائيلية القريب كما تتضارب اليوم. فبموازاة مؤشرات كثيرة لا تخطئ، رسمية وغير رسمية، على راهنية فتح مفاوضات سلام بين البلدين، تنتشر تأكيدات لا تقل إلحاحا وتكرارا عن احتمال اندلاع حرب بين البلدين في الصيف القادم. وهذا ما يعززه رأي العديد من المراقبين الدوليين والدبلوماسيين الذين زاروا عاصمتي البلدين، ونقلوا جميعا رأيا متشابها هو أن كليهما يعلن استعداده للبدء بمفاوضات جدية للتوصل إلى تسوية لكنه يشك بنوايا الآخر، ويتهمه بالاستعداد الحثيث للحرب. فهل سيشهد الصيف القادم كما يتنبأ البعض حربا سورية إسرائيلية، ثنائية أو في إطار حرب إقليمية أشمل، أم إن هناك بالفعل فرصا لإطلاق مسار مفاوضات جدية ومثمرة بين البلدين؟

لم يكن هناك شك في أن لدى الطرفين السوري والإسرائيلي دوافع معقولة للتوجه نحو مفاوضات سلام، إلا أن الظرف الإقليمي لا يدفع للأسف إلى التقدم في هذا الاتجاه فهو أسير الصراع الاستراتيجي العميق والمعقد بين الولايات المتحدة الأمريكية المدعومة من أوروبا لمنع إيران من امتلاك القنبلة النووية
برهان غليون
يراهن المبشرون بالسلام على عدة عوامل, فإسرائيل تعاني من عقدة حرب يوليو الأخيرة الخاسرة على لبنان، وهي تخشى في الوقت نفسه صواريخ حزب الله، وتأمل في أن يخلق التفاهم مع سوريا فرصة لتحييده، أو ربما تفكيك آلته العسكرية. ثم إن هناك من يعتقد أن إطلاق المفاوضات مع سوريا هو الوسيلة الوحيدة لإضعاف الموقف الفلسطيني، والتغطية على مأزق المفاوضات مع الفلسطينيين. وهناك أخيرا انشغال تل أبيب بالتقنية النووية الإيرانية، ومصلحتها في فك سوريا عنها لعزلها وربما توجيه ضربة عسكرية لها. ولا شك أن سقوط غزة منتصف يونيو الجاري (2007) في يد المقاومة الإسلامية حماس، سوف يزيد من اهتمام تل أبيب باسترضاء دمشق والتقرب منها. ولا تقل الحجج التي تدافع عن جدية التوجه السوري إلى عقد اتفاق سلام عن تلك التي يذكرها المراقبون عن التوجه السلمي الإسرائيلي. ومن هذه الحجج رغبة النظام البعثي الذي يواجه احتجاجات متزايدة في استعادة الجولان المحتل، لتجديد شرعيته السياسية وتلميع صورته. ومنها كذلك محاولة الالتفاف على الحصار والمقاطعة الأمريكية، وربما فتح حوار مع واشنطن عبر استرضاء تل أبيب. ومنها ثالثا اهتمام السلطة السورية التي تبنت سياسة الاقتصاد الحر بالانفتاح على أوروبا، في سبيل تحسين شروط اندماجها بالاقتصاد العالمي، وجذب الاستثمارات التي لا بد منها لمواجهة تحديات الفقر والبطالة والتأخر الاقتصادي. وقد بلغ التفاؤل لدى فريق الأزمات الدولية، الذي أصدر تقريرا يركز على هذه المؤشرات الدالة على السير في اتجاه السلام، حدا دفع بمحرري التقرير الأخير إلى اقتراح اتفاقية سلام سورية إسرائيلية. وبالرغم من أهمية ما جاء فيه، يبدو لي أن المحررين ذهبا بعيدا في السير وراء رغائبهما، فلم يريا الواقع الفعلي في تعقيداته وتداخل مشاكله وملفاته، ونظرا إلى مستقبل النزاع السوري الإسرائيلي بمعزل عن القضايا الأخرى الإقليمية. وإذا لم يكن هناك شك في أن لدى الطرفين السوري والإسرائيلي دوافع معقولة للتوجه نحو مفاوضات سلام، إلا أن الظرف الإقليمي لا يدفع للأسف إلى التقدم في هذا الاتجاه. فهو أسير الصراع الاستراتيجي العميق والمعقد بين الولايات المتحدة الأمريكية المدعومة من أوروبا لمنع إيران من امتلاك القنبلة النووية، وبالتالي من بسط سيطرتها على أهم منطقة استراتيجية عالمية، أعني الخليج النفطي، وإيران التي تعتقد أن الغرب يريد أن يحرمها من فرصتها في ضمان أمنها والتحرر من الحصار المضروب عليها منذ انتصار الثورة الخمينية عام 1979. وكما أن إسرائيل لا تستطيع أن تقرر في مسألة الصراع مع سوريا من دون اعتبار المصالح الأمريكية الإقليمية، لا يمكن لدمشق أيضا أن تدخل في عمليات استراتيجية كبرى من دون اعتبار المصالح الإيرانية. هذا من دون أن نذكر بالترابط بين ملف النزاع السوري الإسرائيلي وملفات النزاعات العربية الأخرى، الفلسطينية واللبنانية والعراقية.بالتأكيد لا يمكن لواشنطن ألا تدعم مفاوضات سورية إسرائيلية تهدف إلى فصل سوريا عن إيران. وهذا ما ذكر به أولمرت في رسالته التي نقلها الأتراك إلى القيادة السورية. لكن الاعتقاد بأن دمشق سوف تتخلى عن ايران مقابل وعد بإعادة الجولان يدل على أن واشنطن وتل أبيب لا تدركان تماما مغزى التحالف السوري الإيراني وقيمته بالنسبة للنظامين. فهو الورقة الرابحة الرئيسية حتى لا نقول الوحيدة في استراتيجية بقائهما، بالرغم من صحة ما يقوله التقرير أيضا عن التباينات العديدة في وجهات النظر وفي المصالح في أكثر من ملف من الملفات الإقليمية. لكن جميع المصالح المختلف عليها تبقى ثانوية بالنسبة لما يقدمه التحالف من ميزات استراتيجية حاسمة لطهران ودمشق في مواجهة خصومهما الخارجيين والداخليين معا. وحتى لو لم تكن سوريا تابعة لإيران، وهي ليست تابعة بالتأكيد، فإن تحالفها معها يفرض عليها ألا تسير في اتجاه أو آخر من دون ضمان التناغم مع الاستراتيجية الكلية التي تجمع الطرفين في مواجهة المحور الأمريكي الإسرائيلي. بعبارة أخرى، كما أنه لا يمكن فك إسرائيل عن واشنطن، بالرغم من التباين في بعض مصالحهما لا يمكن بالمثل فك سوريا عن إيران رغم التباين أيضا في بعض مصالحهما الوطنية. فإسرائيل لن تتخلى عن حليفتها الرئيسية لحساب دمشق، ولن تدخل في السلام ما لم تكن واشنطن راعية له. ودمشق لن تتخلى عن حليفتها الكبرى لقاء الجولان، ولن تعقد سلاما مع إسرائيل وأمريكا من دونها.ما ذا يعني إذن التأكيد المتواتر من قبل عاصمتي البلدين على استعدادهما للسلام وتمسكهما بفتح مفاوضات قريبة لتحقيقه؟ في نظري، إن حاجة كل طرف للمفاوضات السياسية تنبع بالضبط من ضرورات مواجهة الظرف الإقليمي الموسوم بالصراع الأمريكي الإيراني، وموضعه نفسه فيه بما يحقق أكثر ما يمكن من المزايا ويقلل أكثر ما يمكن من الخسائر. وهكذا لم تتوقف الحكومة السورية عن إعلان رغبتها في الدخول في مفاوضات سلام من دون شروط منذ تدهور وضعها الاستراتيجي على أثر اغتيال رفيق الحريري وتبني مجلس الأمن مسألة تشكيل المحكمة الدولية. فهي بحاجة لمفاوضات مع إسرائيل ليس للتوصل إلى سلام يعيد الجولان، وتعرف أنه لا يزال بعيد المنال، وإنما لدرء الحرب التي تتهددها، بسبب تفاقم أزمة علاقاتها مع واشنطن التي تتهمها بتشجيع الشبكات الإرهابية في العراق وغيره. فهي تأمل من وراء ذلك في تحييد إسرائيل وحثها على عدم السير في مخططات واشنطن المعادية لدمشق. ثم إن مثل هذه المفاوضات تهدف إلى تجنيب سوريا أن تكون مسرحا للصراع الإيراني الأمريكي المحتدم، وضحيته الرئيسية. أما حملة تل أبيب السلامية، التي لم تبدأ إلا منذ أسابيع قليلة، بعد صدود لافت، فهي تشكل جزءا من الاستراتيجة الغربية الشاملة لما سمي بإعادة إدماج دمشق أو التعاون معها في سبيل إبعادها عن إيران. فهو لا يعكس نضوج إسرائيل للسلام وإيمانها بنجاعته لضمان الأمن، بقدر ما يشير إلى مساهمتها بقسط في تغيير اتجاه السياسة السورية. من هنا، بالرغم من التصريحات المتواترة، ومؤشرات السلام المتعددة، هناك أسباب كثيرة تدفع إلى الاعتقاد بأن المنطقة تتجه بشكل أكبر نحو الحرب. فغياب أي مبادرات سلمية من قبل واشنطن وتل أبيب في السنة الماضية، بالرغم من تفاقم الأزمة الإقليمية وتهديدها لمصالح دولية أساسية، يدل في اعتقادي على أن التحالف الأمريكي الإسرائيلي يميل إلى خيار استعادة صدقيته الاستراتيجية من خلال حرب جديدة ناجحة، أكثر مما يتجه نحو خيار التسوية التي لا بد أن تعكس، في الظروف الراهنة، نتائج النكسات التي مني بها ولا يزال في العراق وجنوب لبنان. لا ينفي هذا احتمال أن تحصل اختراقات غير متوقعة إذا طرأت تحولات مفاجئة على الخريطة الاستراتيجية الإقليمية. وهو ما نـأمله وندعو له، لكن على شرط ألا نضع أقدامنا في مياه باردة ونعول على الحظ. *
نقلاً عن جريدة "الوطن" السعودية
-------------------------------------------

أهلآ بكم في موقع منظمة حزب الشعب الديمقراطي السوري في ألمانيا

يسعى هذا الموقع إلى نشر مساهمات الكتاب في مختلف المواضيع التي تهم المواطن السوري ويأمل أن يكون جسراً بين الداخل والخارج وأن يساهم في حوار وطني يلتزم باحترام الرأي الآخر ويلتزم القيم الوطنية والديمقراطية وقيم حقوق الإنسان ونتمنى أن يساهم الرفاق والأصدقاء في إغناء هذا الموقع والتواصل معه وشكراً.


المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها فقط


يرجى المراسلة على العنوان التالي

bayad53@gmail.com



Blog-Archiv

منظمة حزب الشعب الديمقراطي السوري في ألمانيا

أهلآ بكم في موقع منظمة حزب الشعب الديمقراطي السوري في ألمانيا